2012/07/04

(أفلام الديجيتال) سينما بديلة أفرزتها التكنولوجيا
(أفلام الديجيتال) سينما بديلة أفرزتها التكنولوجيا

اسامة عسل - البيان


أصبحت أفلام الديجيتال لدى كثير من المخرجين الشباب سينما بديلة عن السائد والنمطي، بعد أن وقعت السينما العربية في مطب الروتين والبيروقراطية ـ باستثناءات قليلة ـ وخرجت من العائق الأساسي في الإنتاج والتنفيذ، مثل وجود الكاميرات السينمائية وأشرطة التسجيل الصوتي والمرئي، تحويل شريط النيجاتيف، المونتاج من قص ولصق، والأهم توافر التقنيين المتخصصين والمحترفين في العمل على هذه الأدوات بكل مرحلة من مراحل الفيلم.

وتغلبت أفلام الديجيتال على معضلة التكلفة التقنية في صناعة السينما الكلاسيكية، وبرزت أهميتها في إنجاز العمل دون تكلفة تذكر، مع مشاهدة التصوير بشكل مباشر بعد الانتهاء منه، ومع الوقت زاد أداء كاميرات الديجيتال جودة موازيا تطور تقنيات الكمبيوتر وبرامج المونتاج أيضا، خصوصا أنه في الإمكان تحويل فيلم الديجيتال إلى شريط سينمائي وعرضه على شاشة السينما العادية. وهذا ما قامت به العديد من التجارب في الغرب الذي استفاد من التقنية الجديدة على صعيد خفض تكلفة الإنتاج، ما ساعد في إفراز توجهات فنية استطاعت الاستفادة من الأطروحات التي يمكن لتقنية الديجيتال أن تقدمها للوصول إلى أشكال فنية جديدة للإبداع السينمائي.

وعلى الصعيد العربي، فأول تجربة تصوير فيلم بكاميرا ديجيتال كانت على يد المخرج المصري يسري نصر الله في العام 8991 من خلال عمله الروائي الطويل »المدينة«، والتي فتحت باب الحلول البديلة للتكلفة العالية للتصوير السينمائي، كما شجعت خيري بشارة ليخرج فيلمه »ليلة في القمر« ثم محمد خان لتصوير فيلم »كليفتي« بالطريقة نفسها. وكان من أهم مكتسبات أفلام الديجيتال أنها أفسحت المجال لأن يكون عمل السينمائي أكثر استقلالية بعدم ارتباطه بجهة منتجة أو مؤسسة رسمية في حال استطاع إنتاجه بمفرده أو بمعونة آخرين، وبلور ذلك الفيلم الروائي الطويل »لما حكيت مريم« للمخرج اللبناني أسد فولادكار العام 3002 وقد نال العديد من الجوائز في المهرجانات السينمائية.

ويؤكد يسري نصر الله حول فوائد استخدام الديجيتال ومميزاته قائلا: سيحل أزمات كثيرة في السينما، لأن التكنولوجيا لم تكن أبدا عائقا لأي صناعة، لكن المهم توظيفها بشكل صحيح، ودخول عصر الديجيتال تطور طبيعي لفن السينما الذي بدأ صامتا.

ويصف خالد أبو النجا ـ دخل تجربة الديجيتال كممثل ومنتج في فيلمي »هوليوبولس« و»ميكروفون« ـ تصوير الديجيتال فيقول: هو فن مستقل بذاته له قواعد وأصول مثل المسرح والفيديو، وله مميزات مختلفة غير السينما العادية، فمثلا يمكن التصوير بهذه الكاميرا في أماكن ضيقة جدا، أو إخفائها في درج لتصوير لقطة معينة، كما أنه يمكن إعادة المشهد 20 مرة للحصول على أفضل نتيجة.

»أفلام الديجيتال« قفزة جديدة في عالم السينما العربية، واتجاه حديث أفرز فرص عمل للمخرجين والمنتجين الشباب، ولمعت من خلاله ظواهر وإبداعات وأسماء جديدة في مصر منها إبراهيم البطوط واحمد عبدالله وهالة خليل ومحمد حماد.

وفي السطور التالية، يرصد (الحواس الخمس) هذه السينما البديلة التي يبدو صناعها متحررين من شروط الإنتاج ومراهنات السوق من جهة، ومن سلطة الجمهور وتوقعاته من جهة أخرى، ويسلط الضوء على ذلك من خلال قراءة لفيلم »حاوي« ولقاء سريع مع مخرجه إبراهيم البطوط.

(حاوي) تجربة ديجيتال يرتجل فيها الممثلون الحوار

موجة جديدة من أفلام الديجيتال أخذت تغزو شاشات المهرجانات السينمائية مصدرها القاهرة، وسر تميزها مستواها الفني الرفيع فضلا عن طبيعة القضايا الجادة التي تطرحها وتنتمي للحاضر، والتي تثيرها هذه الأعمال برؤية واعية بالغة العمق، فضلا عن ميزانية إنتاجاها التي تصل أحيانا إلى المستوى صفر.

وفي الأسبوع الماضي، فاز فيلمان من تلك النوعية »حاوي« للمخرج إبراهيم البطوط كأفضل فيلم عربي في مهرجان الدوحة ترايبكا السينمائي، و»ميكروفون« للمخرج أحمد عبدالله الذي حصد الجائزة الكبرى لمهرجان قرطاج السينمائي.

والمصادفة الغريبة، أن يركز العملان موضوعهما على مدينة الإسكندرية بكل تفاصيلها ودروبها وشخوصها، وسنقدم قراءة لفيلم »ميكروفون« خلال عرضه في ديسمبر المقبل ضمن فعاليات الدورة السابعة لمهرجان دبي السينمائي الدولي.

ونتوقف اليوم أمام فيلم »حاوي« أحدث الأعمال السينمائية للمخرج المثير للجدل إبراهيم البطوط، الذي صنع طفرة في مفهوم السينما المستقلة وأفلام الديجيتال بمصر بعد فيلميه »إيثاكي« عام (2005) و»عين شمس« (2008) والذي حصد به العديد من الجوائز الدولية في مهرجانات متعددة.

»حاوي« ـ مثل كل أفلام البطوط ـ يعيد خلق قصص الحياة اليومية، مخاطبا الجمهور بكافة فئاتهم بلسان حالهم، مما يخلق حالة من الترقب لدى المشاهد تجعله جزءا من أحداث الفيلم بمفرداته مع الاحتفاظ بالجو السينمائي الساحر.

(بقيت حاوي بقيت غاوي/ في عز الجرح أنا ما أبكيش/ بقيت عارف/ أطلع من ضلوع الفقر لقمة عيش/ بقيت قادر/ أداري الدمعة جوايا مبينهاش/ بقيت راضي أنام رجليه مقلوبة كما الخفاش/ ما أنا أتعودت أحلامي/ أشوفها تجري قدامي وما ألحقهاش)، كلمات أغنية لفريق مصري سكندري اسمه »مسار إجباري« شارك في تمثيل الفيلم وشكلت تلك الكلمات أيقونة معبرة في نهاية الفيلم الذي حمل عنوان الأغنية التي تعكس حالة أبطاله في لقطات من الضياع والعزلة تشكل المحور الرئيسي للعمل الشديد الواقعية.

لسنا أمام قصة لها بداية ووسط ونهاية، بل مجرد صور ترصد المشاعر بدقة ليس لها سيناريو، والحوار كما يؤكد المخرج في غالبية المشاهد ارتجالي، ولذلك يبقى الحوار في الخلفية والحدث في المقدمة ليعرض صورة مقربة حقيقية من أرض الواقع أبطالها حقيقيون يعيشون بيننا ويعانون نفس المعاناة التي لا يستطيع أحد وصفها لكنه يقدمها دون كلمات فخيمة وخطابات لا مجال لها، إنه يقدم صورة تزعج الجميع لأنها تكشفهم وتعريهم تماما.

(يوسف وإبراهيم وفادي) ثلاثة أصدقاء عانوا من عذاب المعتقلات واكتووا بنار الخوف من السجون، فادي حاول التأقلم مع الحياة بعد خروجه ودفن أحلامه مع شباب طموح يملك مفاتيح الإبداع الموسيقي لكنهم عاجزين عن إيجاد طريقة مناسبة لتصدير ما بداخلهم للعالم، إبراهيم الذي يقوم إبراهيم بطوط بتمثيله يعكس واقعا يعيشه المخرج في الحياة، فالبطوط له بنت تعيش في البوسنة لم يرها منذ سنوات.

ومن الواضح أن الفيلم رسالة اعتذار لها، يعود إلى الإسكندرية بعد غياب 20 عاما يحاصره الخوف من كل جانب وكأنه يخشى مجهول عانى منه قديما، لكن معاناته الكبيرة في مواجهته لابنته آية التي لا تعرف عنه شيئا، أما يوسف فيمثل حلم النزاهة والإرادة للجميع يخرج من تعذيب الأسر في صفقة يقوم فيها بتسليم مستندات وأوراق مهمة مقابل حريته ومبلغ كبير من المال.

لا يحكي الفيلم اي تفاصيل لكن فادي يذهب إلى ابنته الصغيرة الضريرة ياسمين يأخذها في حضنه ويؤمن لها مستقبلها بمبلغ يعطيه لمدرسة البيانو لتشتري لها بيتا عندما تصل إلى عمر الواحد والعشرين، ويذهب ليواجه مصيره بالموت نتيجة عزمه أن لا يعطي أصحاب السلطة والنفوذ كل الأوراق، وتصدمه سيارة في شوارع الإسكندرية لتموت الحقيقة معه على أرصفة الطرقات.

وبين هذه الصور الثلاث تأتي صور أخرى، خالة آية وهي مدرسة الموسيقى نفسها التي تعكف على الاهتمام بتربية (ياسمين وآية) في رسالة لها دلالتها لعلاقات زوجية هشة يكون نتيجتها أبناء يفتقدون الحنان والأمان، وجعفر الذي يرتبط بحصانه ضرغام الذي على وشك الموت وتعكس علاقتهما حالة خاصة لشريحة مطحونة تعتمد فقط على الحيوان الذي يضمن لهم البقاء في الحياة، وهناك كذلك الراقصة التي تظهر كمثقفة تحب الرقص وتمارسه في الملاهي الليلية أملا في الشهرة وتحقيق الذات، أما محور الشر في الحارات والبارات فكان (الدكتور وإنسانية) شخصيتان لا يخلو أي مجتمع منهما.

هناك الكثير من الأمور المشتركة بين طبيعة صناعة هذا الفيلم، وطبيعة أحداث الفيلم نفسه، فالاثنان يشتركان في مضمون واحد، رسالة واحدة، هدف واحد، فالفيلم مصنوع من لاشيء، مجرد كاميرا يمتلكها مخرج ومؤلف الفيلم بتمكن وقوة فائقة الرصد والتعبير ذهب بها إل الإسكندرية.

وكل ما صرفه على الفيلم غرفة صغيرة في »البنسيون« الذي مكث فيه في هذه المدينة الساحلية الجميلة، أما كل ما يتعلق بالفيلم وصناعته وممثليه فكان إبداعا مجانيا من أجل إيصال رسالة إلى صناع السينما المستقلة بأنهم يستطيعون عمل ذلك.

وهكذا يتقاطع هذا الهدف مع شخصيات الفيلم نفسه وأغنية العمل التي تدفع أبطاله إلي أن يتعايشوا مع الفقر ويستغلونه لتحقيق الثراء، أن يتعايشوا مع متاعبهم وآلامهم ويستغلوها في البحث عن الراحة والسكينة، يستغلون البعد والفراق والغربة من أجل البحث عن القرب واللقاء والعودة للوطن.

وعلى عربة »كارو« حملت الفرقة الموسيقية التي أدت الأغنية على كورنيش الإسكندرية، وفي تداعي لصور الفيلم الكثيرة التي تخرج عن نمط السرد المألوف، وتقترب من الواقع في التصوير والارتجال، جاءت دعوة حاوي للجميع، الجمهور والسينمائيين، للبحث عن أمل جديد للأفلام المصرية وسط حالة من اليأس الشديد للسينما التجارية المسيطرة على العقول وشباك التذاكر.

ويفند المخرج إبراهيم البطوط فكرة إدخال مفهوم الأفلام التي لا ميزانية لها قائلا: أمتلك فقط كاميرا ديجيتال والتي منها ينطلق كل شيء، اختار الموضوع بعناية والأماكن التي سأصور فيها، كما اختار الممثلين من البيئة نفسها التي تتناسب مع المكان والموضوع، في تجربتي مع فيلم »عين شمس« اخترت منطقة عين شمس الشعبية والشهيرة في مصر.

وفي »حاوي« اتجهت للإسكندرية بدون ميزانية وعملت مع فنانين مخلصين لعملهم لا يسعون وراء المال والشهرة، لم يتذمروا لأنهم لم يأخذوا دفعة من أجرهم، أصبحوا شركاء معي في الفيلم وأي أرباح أو جوائز أو إيرادات من الداخل أو الخارج أو بيع لقنوات فضائية لهم فيها نسبة، وافقوا على ذلك دون أن نوقع عقودا إلى لحظتنا هذه، وغالبيتهم من الإسكندرية فنانون وفنيون، يحبون السينما ويعشقون سحرها.

وحول الفوضى التي يمكن أن تحدث لو أن كل من امتلك كاميرا صنع فيلما، يقول البطوط: وما الذي يضير من وجود كم كبير من الأفلام، هذا من شأنه أن يرتفع بمستواها، فالمبدع سوف يكون غيورا على فيلمه، سيحاول أن يقدم أعلى مستوى في كل مشهد، وهذا ما سيخدم الفيلم بشكل عام وعلى الجمهور أن يغربل كل ما يخرج، فتراكم التجارب يخلق فرصة للجمهور ليخلق قاعدة نقيس من خلالها كسينمائيين مدى نجاح التجربة من عدمها.

وعن اعتماده على فكرة ارتجال الحوار في أفلامه، وخصوصا »حاوي« يعلق قائلا: الحوار لم يكن ارتجاليا بالمعنى المفهوم، كان يتم الاتفاق عليه أثناء التصوير، فهو مكتوب داخل رأسي وليس على الورق، أسعى لأن أجعل الممثلين يخلقون حوارهم بأنفسهم من شخصياتهم وطبيعتهم، من خبراتهم وحياتهم، حتى يصبحوا جزءا لا يتجزأ منهم، وليس مجرد بعض كلمات يرمونها أثناء التصوير بلا أي مشاعر أو أحاسيس.

ويسترسل البطوط حول رسالته من الأفلام التي يصنعها فيقول: رسالتي هنا ومن خلال أفلامي السابقة، أن أؤكد أن كل من يمتلك كاميرا من الممكن له أن يصنع فيلما روائيا، دون انتظار لقيود السوق السينمائي، والتي أصبحت مثل التجارة التي تخضع لمقاييس الخسارة والمكسب، وهو الشيء الذي أرفضه، فالسينما قبل أن تكون صناعة فن وإبداع وتفكير وموهبة، وهي أيضا صورة تقدم لمتعة الجمهور ولا يجب أن تدخل في حسابات أخرى.