2012/07/04

عن «قصة حديقة الحيوان» التي أثارت جدلاً واسعاً لدى الجمهور السوري
عن «قصة حديقة الحيوان» التي أثارت جدلاً واسعاً لدى الجمهور السوري

خاص بوسطة - علي وجيه

استضافت الصالة متعددة الاستعمالات في دار الأسد للثقافة والفنون مؤخّراً العروض الأولى لجديد فرقة «باب» للفنون المسرحية «قصة حديقة الحيوان»، تأليف: الأمريكي إدوارد ألبي وإخراج: رأفت الزاقوت، دراماتورجيا: وائل قدّور وعبد الله الكفري، أداء: زهير العمر ورأفت الزاقوت. وهو إنتاج مشترك بين دار الأسد للثقافة والفنون، ومؤسسة سيدا ومعهد الدراسات الدرامية في ستوكهولم، ومؤسسة المورد الثقافي.

بين مؤيد ومعارض

أثار العرض جدلاً واسعاً وسط الجمهور وعلى مستوى المتخصصين والمثقفين، وأفرز آراءً في غاية التباين والتضاد بين القبول والرفض، إلى حد لافت ومختلف عن التلقي الباهت للعروض المسرحية عادةً، على الأقل في الآونة الأخيرة. فقد قدّم العرض طرحاً صادماً حول دمشق كمدينة متحوّلة بشكل عشوائي مجهول العواقب، وبعيد عن الصورة الرومانسية المعتادة عن الياسمين والأزقة العتيقة، وأثار سؤال الوعي لدى الطبقة الوسطى ومصيرها، والدور الذي تلعبه اليوم ضمن مجتمع استهلاكي ومدينة ربما باتت قاسية على أهلها.

كل ذلك من خلال حوار يدور بين شخصَين في حديقة عامة (التجارة في دمشق بدلاً من سنترال بارك في نيويورك)، يشتبك مع عدد من المفاهيم التي قد تبدو بديهية ومسلّماً بها للوهلة الأولى، إلا أنّ العرض يدفع المشاهد لإعادة طرح هذه الأسئلة والتفكير بها مجدداً. جاء في البيان الصحفي للعرض: «قصة حديقة الحيوان هي قصة معزولَين يلتقيان بمصادفة حتمية في حديقة عامة. فادي: ذاكرته حبلى بسكينٍ وقصة؛ وصلاح: الذي يعيش فراغاً ملؤه الانتظار، يحاولان - عبثاً- فتح قناة للتواصل ويكتشفان أنّ الأوان فاتهما منذ زمن بعيد».

يقول مخرج العرض رأفت الزاقوت لـ «بوسطة»: «كنّا نتوقع هذا الجدل الكبير بعد الاختبارات التي أجريناها على مجموعات من الحضور العادي والمختصين. للأسف، نحن معتادون على طريقة أداء معينة يظهر فيها التمثيل تمثيلاً. النص صادم اجتماعياً ومعرفياً، يخلو من المواربة، ويحتوي على عبارات مباشرة وكلام قاسٍ قلّما نسمعه على خشبات مسارحنا. لذلك، كان من الطبيعي أن تتباين ردود الفعل بالطريقة التي رأيناها».

يضيف صاحب «نشاز» 2006 و«الجمعية الأدبية» 2009: «هناك مَن أحب الجديد الذي اقترحناه للنقاش، وهناك مَن لم يوافقنا الرأي. البعض، للأسف، معتاد على ركود المسرح والعروض الباهتة التي تعبر دون تأثير. حاولنا في قصة حديقة الحيوان أن نكون مؤثرين ولصيقين بالواقع دون تجميل، مع الحفاظ على المتعة. الوضع ببساطة أنّك ترى مشكلة حقيقية أمامك، تطرحها للنقاش وإثارة الأسئلة وتلقّي الآراء، وهذا ما فعله إدوارد ألبي في أوروبا ابتداءً من برلين 1959 قبل أن يصل إلى أمريكا حيث ولد النص. أعتقد أننا وفّقنا في فتح باب النقاش حول المفاهيم التي أردناها، والجمهور استمع لنا ولم يغادر أحد الصالة طوال أيام العروض».

عبد الله الكفري، الكاتب والصحفي خرّيج قسم الدراسات المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية 2004، يقول: «أمر إيجابي أنّ العرض فتح مجالاً للنقاش، فنحن في سورية لم نطوّر جلسات للحوار والنقاش سواءً في النقد أو التلفزيون أو غير ذلك. النقطة الأساسية في العرض هي سؤال الوعي عند الطبقة الوسطى، وهو سؤال مهم وملح. أين هي اليوم؟ ما مدى وعيها وأهليتها؟ إلى أين نحن سائرون في وضعنا الحالي؟».

ويتابع صاحب نصّ «دمشق - حلب» الحائز على المركز الأول في جائزة محمد تيمور للإبداع المسرحي 2009: «النص يقوم بتسمية الأمور بمسمّياتها، وفي الإعداد قمنا بتقريبه أكثر من الجمهور السوري. يشعر المتفرّج أنّه يعرف هذه الأماكن، وأنّه شاهد هذَين النموذجَين البشريين من قبل. وجود فادي كشخص غير مهم، وإنّما فعله هو ما نريد للمشاهد أن يتلقاه ويتفاعل معه. كذلك الأداء دون انفعال وبأقل قدر من التشخيص، ونحن من الداعمين لهذا التوجّه. لهذا كلّه ربما أثار العرض ردود فعل قوية ومتباينة».

الكاتب والصحفي وائل قدّور الذي نُشِرَ نصّه «الفيروس» ضمن سلسلة «ذاكرة المسرح السوري» من إصدارات احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية، وفاز بجائزة المركز الثاني في جائزة محمد تيمور للإبداع المسرحي 2009، يعيد هذه النقطة إلى طبيعة العرض نفسه: «العرض قائم على الأفعال الدرامية المحمّلة على اللغة مع الحد الأدنى من الحركة والإخراج، وهذا الخيار شكَل مهمة صعبة لنا حقيقةً. جزء من الجمهور غير ميّال لهذا النوع من الدراما التي قد يجدها مملة، بالمقابل هناك قسم يحبّ هذا التوجّه ويجده مرضياً، وبالتالي جاء هذا الجدل والانقسام حول العرض».

الحوار الطويل

العرض قائم على الحوار كما ذكرنا، واشتمل على بعض المونولوجات التي وجدها البعض فائضةً عن الحاجة وطويلةً أكثر من اللازم. حول هذه النقطة يقول رأفت الزاقوت: «نحن نتوجّه للجمهور السوري ولكن بفكرنا وأدواتنا نحن. هي شعرة دقيقة بين ما يريده الجمهور وما تريده أنت. لقد دفعنا المتلقي للتساؤل: لماذا فادي ثابت لا يتحرك؟ لماذا يضع يده في جيبه ويقف بهذا الشكل؟ لماذا يسهب كثيراً في حديثه مع صلاح؟ الثبات يعزّز القلق لدى صلاح وبالتالي الجمهور، والإسهاب في الكلام أتى كنوع من وصية ما قبل النهاية. الناس حكموا على فادي وبالتالي على أنفسهم، وهذا ما أردناه حقيقةً».

الدراماتورجيا والاشتغال على النص

استهلك العرض كثيراً من الوقت في البحث والتحضير وإضفاء المحلية على النص الأصلي، «وللدراماتورجيا قصتها في قصة حديقة الحيوان، قصةٌ زخرت بتفاصيل المعادِلات والإرجاعات وبناء الخطاب المسرحي وأسئلة المعنى» حسبما جاء في البيان الصحفي المرافق للعرض.

يقول عبد الله الكفري، الذي كانت له تجربة مماثلة العام الفائت مع المخرج رأفت الزاقوت في عرض «الجمعية الأدبية» عن نص الكاتب الغيني هنري أوفري: «الشخصيات حقيقية ومحلية وأصيلة الانتماء إلى دمشق. فادي موجود فينا ولكن لديه تمايزه وخصائصه المستقلة في الوقت نفسه. عملنا على النص من تحت الكلمة، وهناك جمل ألغيت بالكامل لأنّها لا تتناسب مع روح النص الجديد».

يؤمّن الزاقوت على كلام الكفري، فـ «الدراماتورجيا مشغولة بعمق، وكل تفصيل في النص الأصلي خضع للنقاش والتحليل، حتى أننا اتصلنا بمخرج أمريكي لمعرفة بعض التفاصيل والمعاني بشكل دقيق. أجرينا الكثير من البحوث، وقرأنا دراسات عن الانتحار ودوافع المنتحر وغير ذلك، وأمضينا حوالي سنة في البحث النظري والعمل. كان الشرط الأساسي ألا تكون الصنعة ظاهرة أو واضحة في إعداد النص والإخراج والتمثيل والديكور والإضاءة، رغم أنّ كل ذلك موجود ومدروس بمنتهى الدقة، بما في ذلك تغيّر الإضاءة كل 5 – 6 دقائق، وصوت ورق الشجر المتناثر على الأرض».

يتابع مدرّس مادة الدراما والمسرح في الجامعة العربية الأوربية الخاصة: «اشتغلنا على الشخصية المركّبة السورية والعربية مثل صلاح، وهي صعبة رغم بساطتها الظاهرية، ولا أعرف لأيّ درجة وفّقنا في ذلك. في النهاية، نحن بعيدون عمّا أسمّيه بالمسرح السياحي، أي مسرح الاستسهال وتقديم ما يريده الآخرون وليس ما نريده نحن».

دمشق ومفاهيم أخرى.. الوجه الآخر

العشوائيات، الشذوذ، العزلة، فراغ الحياة في المجتمع الاستهلاكي، الرب، الأمومة. دمشق لم تعد مدينة الياسمين والحارات العتيقة والمياه المتدفقة. الأيقونة الرومانسية تحوّلت إلى مكان قاس يتحوّل بشكل عشوائي مريب. إنّها آثار المجتمع الاستهلاكي على الطبقة الوسطى. «ومن برلين 1959 خاضت عشرات المدن حول العالم رحلتها مع نص قصة حديقة الحيوان، واليوم بدت لنا دمشق مهيأةً لاستقباله، مفتوحةً على رؤيته الاستشرافية لما ستؤول إليه المدينة إذا ما تابعت تحولاتها العشوائية، مؤهلةً لأن تطرح سؤال الوعي على سكانها إزاء متغيرات حياتهم وتوازنهم القلق. اليوم ينتظر جمهور دمشق –تماماً كما ينتظر صلاح– أن يقصّ عليهم فادي ما حدث في حديقة الحيوان، ومن خلال تفاصيل هذا الانتظار تعبر دمشق بضجيجها وصمتها، وتخبرنا القصة على طريقتها».

البعض وجد ذلك مبالغةً في تصوير الواقع وأنّ ما يحدث في نيويورك لا يقع في شوارع دمشق وأزقتها، يقول رأفت الزاقوت: «التعامي عن الواقع كالشيطان الأخرس تماماً، ولأنّي بار لهذه المدينة أصرّ على مواجهة هذه القضايا الصادمة. مدينة تفرز شخصية مثل فادي لا بدّ أنّها تراكم الكثير من الإفرازات والإشكاليات والتحوّلات الكبيرة، خصوصاً على المستويَين الثقافي والاجتماعي. لم نرد أن نجعل الجمهور كئيباً ومحبطاً، بل هي صرخة نحو الحياة. فادي لم يكن لينتحر لو كان هناك نظام مؤسساتي واجتماعي سليم».

عبد الله الكفري، صاحب نصوص «ضجيج ملون»، «تصريح زيارة» و«نصف غرام لحم وردي» يقول بدوره: «لم نجمّل صورة غير موجودة، ولم نبشّع واقعاً قائماً. بالتأكيد لم نقدّم صورة مشرقة أو احتفالية، ولا أعتقد أنّ المسرح معنيّ بذلك، وهذه ليست مهمّتنا. بعض الحضور بكى بعد العرض للحال الذي وصلنا إليه، ونحن لا نريد إيذاء شعور أحد بقدر ما نسعى لطرح الأسئلة: هل نعرف بعضنا اليوم؟ إلى أين نسير بالضبط؟ وهكذا».

وائل قدّور، خرّيج قسم الدراسات المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية 2005، يجد أنّه «لا يمكن لأيّ عمل فني أو أدبي أن يختزل مدينة بكامل أبعادها ومستوياتها. صلاح في العرض لا يمثّل الطبقة الوسطى وإنّما سؤال الوعي لديها. نجده لا يعي شيئاً من واقع مدينته، ويكاد يستغرب التفاصيل التي يرويها فادي أمامه. صحيح أنّ هناك نوع من الهالة حول دمشق، ولكننا نعوّل أن يحاكمنا المتلقّي من داخل خيارنا الفني وليس من خارجه».

صاحب نصوص «الدحل»، «خارج السيطرة» و«لو» يصف فرضية العرض بالـ «استشرافية»، ويرى أنّ «شرعية حدوثها هي ما جعلنا نثبتها، وليس أنّها حدثت فعلاً. هل يمكن أن يلتقي الاثنان بهذا الشكل؟ هل يوجد شاب عدمي، معزول ذو وعي تدميري قد يقدم على الانتحار؟ هل يوجد موظّف طبقة متوسطة يجلس على هذا الكرسي في الحديقة كل أسبوع؟ هذا هو الفرق بين الحياة والفن».

في النهاية

يختم رأفت الزاقوت قائلاً: «أتفهم مَن هاجم العرض ومَن أيّده، وأجده نتيجةً طبيعيةً. برأيي أننا  قدّمنا طرحاً جديداً بدون تزيين وشعوذة، ما أدّى لتوليد حوار مع الجمهور، فكان هناك المؤيّد والمعارض».

أمّا وائل قدّور فيرى أنّ «هذا التباين يقودنا لاستنتاج مدى التباس دمشق على سكانها كما هي ملتبسة على صلاح في العرض، وهذا يعني صحّة الفرضية التي ذهبنا إليها».

بطاقة العرض:

الاسم: قصة حديقة الحيوان.

تأليف: إدوارد ألبي.

إخراج: رأفت الزاقوت.

دراماتورجيا: وائل قدّور - عبد الله الكفري.

أداء: زهير العمر - رأفت الزاقوت.

سينوغرافيا: وسام درويش.

موسيقا: محمد عثمان.

تصميم الأزياء: ظلال الجابي.

مساعد المخرج: رامي خلف.

إدارة الإنتاج: كارولين كنج.

تصوير فوتوغرافي: خالد عيد.

إنتاج مشترك بين دار الأسد للثقافة والفنون، ومؤسسة سيدا ومعهد الدراسات الدرامية في ستوكهولم، ومؤسسة المورد الثقافي.