2012/07/04

 في حارتنا وفي فترة الستينات، كانت هناك شخصية من "أعمدة" الحارة.. اسمه "أبو قيصر" وأعتقد أن الأستاذ بسام الملا يتذكره.. أبو قيصر هذا كان على "باب الله" كما يقولون.. متعيش.. يعني يعمل في كل الأعمال الموسمية التي تتيحها له الظروف.. فهو تارة بائع فول نابت.. وتارة أخرى بائع بطيخ.. وطورا بائع خضار حسب ما يمكن أن يوفره من الخضار رخيصة الثمن والمستوى لمن لا يريد أن يذهب إلى سوق الجمعة في حي الشيخ محي الدين المجاور، ليشتري ولا يريد أن يتكلف.. وفي كل الأحوال الجميع شهدوا لأبي قيصر بأنه وفي مجال الفول النابت بالذات كان معلما لا يشق له غبار.. وكنا وبعيد خروجنا من المدرسة نلتقي جميعا ومن كل المدارس.. الابتدائية والإعدادية وحتى الثانوية حول بسطة أبو قيصر لنلتهم ما يقدمه لنا من فول لذيذ وساخن في برد الشتاء الذي لا يرحم.. ومشكلة أبو قيصر كانت في أن محله القريب من جامع النقشبندي في أول طلعة مقبرة ومقام الشيخ خالد، أنه كان الواجهة التي يمر بها كل من يريد الدخول إلى الحي بما فيهم دوريات الشرطة.. وبما أن المحل صغير جدا ولا يمكن أن يستوعب حتى بسطة أبو قيصر للفول.. فهذا جعله يمتد إلى خارج المحل عدة أمتار.. الحقيقة أنها لم تكن عدة أمتار.. كانت تقريبا مساحة تعادل واجهة المحل الذي لم يكن عمقه يتجاوز النصف متر.. وكانت البسطة تغني عن الحاجة للعمق على اعتبار أنها كانت تتمدد إلى الطريق المجاور أمتار أكثر وبكثير من عمق المحل الصغير جدا.. ولهذا كان أبو قيصر مضطر دائما إلى تعليق صورة "الزعماء" في صدر محله خلف البسطة كذريعة لكي لا تقوم الشرطة أو البلدية من منعه من التمدد الذي هو في غاية الحيوية لنشاطه.. أو على الأقل كانت صورة "الزعيم" هي المبرر في تأجيل عملية الإزالة التي كانت كابوس أبو قيصر اليومي.. في بداية الستينات وعند حصول الإنفصال قام أبو قيصر برفع صورة الزعيم (الراحل) جمال عبد الناصر أكثر من عشر مرات فوق بسطته وفي صدر محله.. عشر مرات في يوم واحد تعني أنه فعليا رفعها وأعادها عشر مرات.. والسبب أنهم وفي إذاعة دمشق وخلال الإنفصال سببوا "الحوَل" لكل سكان المدينة.. فتارة يخرج البيان رقم 1 معلنا الانفصال عن الجمهورية العربية المتحدة.. ولا يلبث أن يصدر بيان آخر برقم آخر معلنا العودة إلى التفاوض بشأن الوحدة التي لم تنفض بعد.. وهكذا.. وفي كل إعلان كان على أبو قيصر أن يعلق صورة الزعيم "ناصر" ولا يلبث وعند صدور البيان الذي يليه أن يرفعها بانتظار بيان آخر.. إلى أن مر جدي بالقرب منه.. وجدي كان معروفا بأنه مدمن استماع إلى نشرات الاخبار، على اعتبار أنه متقاعد ولا عمل لديه إلا الراديو.. فسأله أبو قيصر على الفور "أبو نمر.. صورة مين بدنا نعلق؟!!".. فما كان من جدي المغتاظ جدا بسبب الانفصال إلا أن أجابه "علق صورتك وخلصنا"... تذكرت هذه الحادثة وأنا أتابع أحوال حارة محاصرة وبدون زعيم.. هذا الزعيم الذي فر على غفلة وبدون أي مبرر.. من فوق سور ما.. من خلال حفرة ما.. لا أحد يدري.. حتى أم جوزيف التي جسدت دورها وبإبداع لا يمكن نسيانه (تسلملي عينها) ست الكل منى واصف.. حتى هذه السيدة التي لا أعرف كيف أصفها، لم تفهم لم "أبو شهاب" خارج الحارة في هذا الوقت العصيب بالذات!!!.. حصار الحارة لفتة لا يمكن إنكار أنها في غاية الذكاء.. لم ينس أحد بعد حصار غزة.. وبالذات أهل "بر الشام" كما يصفنا أهل مصر.. وفوق هذا هناك خط لفلسطين.. لا أنكر أنني وأنا الفلسطيني السوري، أنه فعلا مس وترا ما في أعماقي.. فدمشق التي كانت وماتزال وستبقى "عاصمتنا" بكامل أهلها بما فيهم "ابن حارتي" بسام الملا وأبو عصام المنسحب رغما عن أنفه من حارته، والمطالِب بجعل القدس عاصمة أبدية للثقافة العربية، لم ولن تنسانا.. ولكن بالله عليكم هل يمكن تبرير غياب "الزعيم" لأي سبب كان الحارة والبلد والوطن كله محاصر؟!!!.. لا أعرف حقيقة جوابا لهذا السؤال إلا ذاك الذي "نتره" جدي وفي حالة الغيظ الشديد تجاه الحالة التي كانوا يعيشونها في أوائل الستينات.. "علق صورتك وخلصنا"... وبالنسبة للأستاذ بسام الملا أسأل وأعتقد أن الملايين ممن يتابعون عمله الآن يسألون.. كيف سيكون الحال وأبو عصام وأبو شهاب موجودين وسط الحصار؟!!!.. أم علي أن أعود إلى أجابة جدي وأطلب منه أن "ينزل أمام الكاميرا ويخلصنا"؟!!!!!....