2012/07/04

البحث عن سفن ضائعة
البحث عن سفن ضائعة

شكري الريان

قد يكون نوعاً من الاستباق للأحداث، ولكن بعد كل الذي حدث للقافلة التي يممت شطر شاطئ غزة بغية إيصال مساعدات لمئات الألوف من المدنيين المحاصرين هناك على مدار أعوام، بعد كل الذي حدث بات الانتظار ضرباً من ضروب المشاركة في الجريمة... المقصود هو أن تلك السفن قد ضاعت بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث لم تصل إلى مبتغاها.. وحتى لا ينتقل الضياع إلى المعنى المجازي ويضيع معه المدلول النبيل لتلك المحاولة، فإننا يجب أن نتوقف قليلاً في محاولة بدورها قد تصل أو قد لا تصل إلى مبتغاها، ولكن يبقى لها شرف المحاولة في إبقاء تلك السفن ضمن رادار ضميرنا الذي نتمنى له أن لا يضيع بدوره.. الحكاية باتت معروفة للجميع وبجميع تفاصيلها.. قد يقول البعض.. ولكن الحقيقة المرة أن تلك الحكاية ومن لحظاتها الأولى وهي لما تكتمل فصولاً بعد، قد رويت وبطرق مختلفة تجعل "الولدان تشيب" كما يقول رواة الحكايات الشعبية عندنا عندما يريدون التقديم لحكاية عن الجان والعفاريت.. وعفاريت زماننا الحاضر هم أولئك المكلفون برواية الحكايات التي تطرأ على أحداث عالمنا عبر وسائل الإعلام المختلفة، وأهمها في وقتنا الحاضر الشبكة الدولية للاتصالات.. وما يجعل واحدنا يشيب هو تلك المقدمة التي يبدو أن وسائل الإعلام الناطقة باللغة الإنجليزية عبر الشبكة الدولية قد أجمعت عليها (ما خلا بضعة وسائل إعلام ما تزال تحتفظ بحد أدنى من الإحساس بالمسؤولية تجاه سمعتها بالدرجة الأولى، النيويورك تايمز والإندبندت على سبيل المثال). وتلك المقدمة تقول وبالحرف "إن القوات الإسرائليلة قد هاجمت قافلة سفن تحمل المئات من المناصرين للفلسطينيين وهي في طريقها إلى ميناء غزة"... وبعدها تبدأ التفاصيل بالظهور ولكن لمن يريد الاستزادة بعد مقدمة تلخص، وحسب وجهة نظر كاتبها، كل الحكاية... إذا فالحكاية كما تُسرد ملخصة تعود بالصراع إلى معناه الأولي الابتدائي الذي يبدو أن العالم كله قد حفظه عن ظهر قلب.. هناك إسرائليون يعيشون في صراع مع فلسطينيين، يدّعون بدورهم أن لهم حقاً في أرض "إسرائيل"، وقد انضم إلى هذا الصراع بضعة مئات من المؤيدين للفلسطينيين من جنسيات مختلفة، فقام الإسرائيليون بإيقافهم وأضافوا إلى قائمة الضحايا عشر جثث جديدة.. وهذا بالاستناد إلى العنوان الرئيسي الذي أجمعت عليه كامل وسائل الإعلام المقروءة عبر الشبكة الدولية.. حيث الرقم عشرة يحتل الصدارة (باستثناء الواشنطن بوست التي نقلت الفبركة حتى إلى العنوان معنونة خبرها على الشكل التالي "نشطاء مؤيدون للفلسطينيين يقتلون في قافلة تنقل مساعدات إلى غزة").. ولكن وبعد قراءة ملخص ما كتب في مقدمة الغالبية الكاسحة مما كتب، يضيع المعنى في محاولة لجعل الأمر أكثر من عادي في سياق صراع أُظهر إعلامياً، ومن البداية، أنه من عاديات الأخبار بشكل يومي، حتى مع "الفوسفور الغزاوي" الذي يبدو أنه بدوره قد نسي تماماً.. وطبعا كاتب هذه السطور لا يدعي أن له ذاكرة مديدة تصل إلى فصول الصراع الدموية بالكامل، لذلك أكتفى بذكر الفصل الأخير، حيث الجلاد لم ينفك لحظة عن شحن الذاكرة بكل جديد، مضيفاً ما لذ له من اختراعات لم تخطر للحظة حتى ببال الجان والعفاريت..   المشكلة فيما نشر ليس أنه لم يلجأ إلى إظهار الخبر ضمن سياقه الطبيعي، وعفاريت إعلامنا المعاصر أكثر حنكة من أن يتورطوا في مسائلة مباشرة ومكشوفة عن مصداقيتهم بالذات.. المشكلة تكمن فيمن يريد الاطلاع على الخبر، وعبر الشبكة الدولية، التي باتت مؤخراً المصدر الرئيسي للأخبار العاجلة التي ترد تقريباً كل لحظة من أربع جهات الأرض.. حيث التلفزيون وبكل إمكاناته لم يعد قادراً على مجاراة شبكة تتسم بالسرعة والمرونة والفعالية، والأهم أنها الأقدر على تحديد طبيعة رد الفعل الأولي تجاه ما حدث، وهناك عشرات الملاييين، إن لم يكن أكثر، عبر العالم متصلين بالشبكة على مدار الساعة لمتابعة أعمالهم ولا مانع أن يكونوا في صورة ما يستجد ولكن ملخصاً.. إذاً الخلاصة تكمن دائما في هذا الملخص الذي يبدو أن هناك نوع من الدراية المسبقة في إعداده بحيث يقدم بنفس الطريقة دائماً، عندما يتعلق الأمر بكلمة واحدة، الظاهر أنها باتت تشكل رعباً حتى للعفاريت "إسرائيل".. ولكن ما هو "السياق الطبيعي" الذي يجب أن يظهر عليه الخبر بعد كل هذه الإطالة؟.. إنه ببساطة إعادته إلى معناه الإنساني، وهو أن هناك جريمة ترتكب على مدار الساعة ولسنوات بحق مئات الألوف من المدنيين العزل في غزة، وأن هناك من أراد وضع حد لهذه الجريمة فدفع الثمن حياته.. وهذا بالضبط ما يراد له أن يضيع ملخصاً وحتى في التفاصيل.. والحكاية، كما أريد لها أن تظهر، هي أنه نفس الصراع القديم الذي حفظتموه كما رويناه لكم بالضبط ولا داعي للقلق، فالعالم مليء بالمجانين، سواء أكانوا مؤيدين للفلسطينيين أم من المعترضين على تناول كبد البط الدهني، وهناك حكماً بضعة ضحايا سيسقطون كما يسقط "العشرات" يومياً بسبب الكثير من الحوادث المؤسفة، سواء أكانت مرورية أو حتى نتيجة كوارث طبيعية.. ولكن هل انتهت الحكاية هنا وضاعت السفن فعلاً؟!!!.. سؤال أعتقد أن الإجابة عليه ستكون أوضح في القادم من الأيام، التي نتمنى، من أجل صحتنا النفسية فقط، أن لا تكون كغيرها مما سبق من أيام، حيث فرض علينا أن ننسى حتى لا نموت قهراً.. وهي للحقيقة ميتة أصعب وبكثير مما واجهه أولئك الشرفاء فجر الاثنين وهم يحاولون لفت انتباه العالم إلى جريمة ترتكب، فتحولوا بدورهم إلى ضحايا.. مع الإنتباه إلى ذلك التفصيل "الصغير" في تلك الحكاية المتعلق بالضحايا والمراد منه إيصال رسالة إلى ما تبقى من "حمقى" في هذا الكوكب لو فكروا بأن يعيدوا الكرة من جديد، فهل يعيدونها فعلاً ولا تضيع السفن؟!!!..