2017/08/19

بوستر الفيلم
بوستر الفيلم

خاص بوسطة _ عوض القدرو 

يبدو أن قدر الإبداع أن يكون دوماً عرضةً للاتهام و التكفير من قبل قوى التطرف و التكفير الإرهابي ومستمر دون توقف عبر التاريخ .

في عام 1974 واجه المخرج السوري العالمي الشهيد مصطفى العقاد هجمة إعلامية و سياسية وثقافية ودينية من قبل رابطة العالم الاسلامي التي يقودها التيار الوهابي في السعودية وبدورها حرضت السعودية معظم دول العالم الإسلامي على منع عرض الفيلم الشهير ( الرسالة ) الذي يتناول سيرة النبي العربي محمد ابن عبد الله ودعوته  للدين الإسلامي لكن الفيلم أثبت نفسه وحضوره رغم الحصار الخانق حوله وأصبح واحداً من كلاسيكيات السينما العالمية ...

في عام 2015 أي بعد 41 عاماً يخوض المخرج الإيراني الكبير و الغني عن التعريف ( مجيد مجيدي ) تجربة سينمائية مشابهة من خلال إخراجه فيلم ( محمد رسول الله ) والشيء بالشيء يذكر فلقد كان اسم فيلم الرسالة ( محمد رسول الله ) لكن مصطفى العقاد غير اسمه للرسالة بعد عرض الفيلم للمتشددين الاسلاميين في العاصمة البريطانية ( لندن ).

فيلم ( محمد رسول الله ) هو أضخم إنتاج إيراني سينمائي على مدى تاريخ السينما الإيرانية وقد وظّف مجيد مجيدي كل الإمكانيات و التقنيات لصنع هذا الفيلم وقد ساهم بإنتاج الفيلم الحكومة الإيرانية ومركز الفن الإسلامي ( صورة سينما)وبلغت الكلفة الإنتاجية للفيلم 40 مليون دولار وكان حرص مجيدي واضحاً على أنه يريد تقديم فيلماً ليس عادياً ولا يشبه أفلامه السابقة التي اجتاح بها اهم المهرجانات السينمائية الدولية فكان دقيقاً للغاية في اختيار فريقه التقني و التمثيلي و الاخراجي فأوكل مهمة تصوير الفيلم للمصور الإيطالي الكبير و المشهور ( فيتوريو ستواريو ) الحائز على ثلاث جوائز اوسكار كأفضل تصوير عن فيلم ( القيامة الآن- للمخرج فرنسيس فورد عام 1979) وفيلم ( ريدز للمخرج وارن بيتي عام 1981) وفيلم ( الإمبراطور الأخير للمخرج الإيطالي بيرناردو بيرتولتشي عام 1987) وبالطبع قام هذا الرجل بتصوير العديد من الأفلام العالمية المهمة ومنها ( التانغو الاخير في باريس -1900 – كارمن وتانغو للمخرج كارلوس ساورا – بوذا الصغير) ولعب دور البطولة في الأدوار الرئيسية كل من الممثل الايراني المشهور ( مهدي باكديل ) الذي أدى شخصية أبو طالب عم الرسول والذي هو محور رئيسي في الفيلم بالإضافة للممثلة المسرحية الشهيرة ( سارة بايت ) التي قدمت مجموعة من الافلام وكان أهمها فيلم انفصال الحائز على اوسكار افضل فيلم اجنبي عام 2012 للمخرج اصغري فرهادي والتي حازت عنه على جائزة الدب الفضي لأحسن ممثلة في مهرجان برلين الدولي لعام 2011 وقد لعبت في فيلم محمد رسول الله دور مرضعة الرسول حليمة السعدية بالإضافة الى الممثلة ( مينا ساداتي ) التي لعبت دور آمنة بنت وهب والدة الرسول تم تصوير الفيلم بالكامل في ايران وتحديداً في مدن (قم – بوشهر – كيرمان ) تبلغ مدة الفيلم 178 دقيقة وقد تم تصوير الفيلم بطريقة ال 35 ملم وليس بكاميرات ديجيتال وبالصوت المجسم الدولبي .

منذ حوالي أقل من شهر من تاريخ نشر هذا المقال حالفني الحظ بأن ازور إيران للمرة الثانية وكانت فرصة ذهبية أن أشاهد فيلم محمد رسول جلست حوالي الثلاث ساعات دونما كلل أو ملل أتابع فيلماً لا يشبه ولا ينتمي لأي فيلم ديني ولا يحمل أي صبغة دينية وبعيد كل البعد عن التحيز لأي مذهب أو طائفة هو باختصار شديد مشهدية سينمائية بارعة التركيز و الموهبة في رصد جزء مهم من حياة النبي محمد بن عبد الله منذ ولادته وحتى بلوغه سن الثالثة عشرة من عمره و تسليط الضوء على الحياة الاجتماعية والقبلية التي كانت سائدة في مكة وشبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام
مجيد مجيدي دخل في غياهب أرضٍ ومنطقة لايعرف التاريخ عنها أي شيء منطقة قائمة على زعامة القبائل و التجارة بكل أشكالها حتى بالبشر وتحديداً تجارة الرقيق و النساء لكن على الجانب الاخر يدخل مجيدي في العوالم الإنسانية والروحية في المحيط الذي نشأ فيه النبي محمد وتبدو واضحةً رسالة مخرج الفيلم بأنها رسالة تأكيد على أن الاسلام هو دين صداقة وسلام ومحبة من خلال سلوك النبي محمد عندما كان فتى صغير كيف كان يتعامل مع محيطه الإجتماعي
منذ الدقائق الأولى للفيلم بدا واضحاً أسلوبية مجيدي في التعاطي مع السيناريو المكتوب بأمانة وموضوعية فزمن كتابة سيناريو الفيلم التي استغرقت ثلاث سنوات لم تكن عبثاً فهذا النوع من الأفلام يجب أن يكون مبني على مراجع حقيقية وصحيحة و لا يكفي أن يكون المخرج وكاتب السيناريو متفرداً بها ومن هذا المنطلق تم الرجوع و الاستفادة من كافة مراجع السنة و الشيعة ليقدم فترة معينة من حياة النبي محمد تتفق عليها كل طوائف الدين الاسلامي فتمت الاستعانة بمؤرخين من كافة دول العالم الاسلامي من تونس وسورية و العراق و الجزائر واليمن وايران واندونيسيا وماليزيا حيث كان من الضروري جداً إيجاد توافق بين مسلمي العالم الاسلامي فظهر جلياً من خلال ديكورات الفيلم وتحديدا فيما يخص مدينة مكة انها تحاكي تلك الفترة الزمنية قبل 1400 عاماً .


يبدأ الفيلم بالعنوان فقط دون ورود لأي اسم من أبطال العمل أو المخرج وهنا يبدو حرص مجيدي على وضع المشاهد بشكل مباشر ضمن أجواء الفيلم الذي يستعرض مكة المكرمة ضمن تركيبة مشهدية تجعل المتلقي بشغف الانتظار للقادم من الفيلم من خلال استعراض لشكل العلاقات الذي كان سائداً في تلك الفترة وماذا كان يعني وجود الكعبة لأهل مكة وارتباطها بشكل مباشر بقبيلة بنو هاشم التي ينحدر منها النبي محمد ومسؤولية جده عبد المطلب عن خدمة ورعاية الكعبة والذي يجد نفسه أمام تحدي كبير عندما يقرر ملك الحبشة ابرهة الحبشي بغزو مكة وهدم الكعبة وبالطبع يتزامن ذلك مع ولادة النبي محمد حيث وحسب ما دونه المؤرخين انه ولد في عام الفيل الذي سمي بذلك نتيجة لغزو ملك الحبشة مكة التي لم تكن تمتلك جيشاً يواجه جيش ابرهة الكبير ..
هنا تبرز عبقرية مجيدي في تصوير هذه المعركة بأسلوبية مدهشة مستعملاً ما يكون اقرب للرواية التاريخية وذلك بحشد مجموعة من الفيلة بمقدمة الجيش و بالطبع الكل يعرف الرواية وكيف تم القضاء على جيش ابرهة بالكامل عندما جاء طير يدعى ابابيل ورمى جيش ابرهة بحجارة من سجيل وقضى عليه هنا يبرز الفيلم بشكل مدروس وهو طريقة توظيف مشاهد الخدع السينمائية وتقنيات الغرافيك المستعملة وان كان هناك بعض الضعف في تنفيذ مشاهد طيور ابابيل حيث لم تكن مقنعة بطريقة تشكيلها وطيرانها وتبدأ مسيرة وحياة النبي محمد في مجتمعه القريشي وكيف يتم تسليط الضوء بشكل مباشر على النواحي الانسانية وظهور عمه ابو طالب واعطاء محمد للمرضعة حليمة السعدية وكيف تتجسد روعة اداء أبطال وبطلات للنواحي الانسانية والروحية في تلك المشاهد التي لايمكن الحديث عنها كون القصة معروفة لكن بروز دور مجيدي برؤيته السينمائية الثاقبة وطرحه للموضوع جعلت مشاهد الفيلم تمر بطريقة سلسلة ولا تشكل عبئ عقلي او بصري على المتلقي ...


يوازن مجيدي في انسجام الاديان واجتماعها و اتفاقها على ان الدين هو دين الله وما بشر به عيسى بن مريم بنبي يظهر من الجزيرة جاء بشكل جميل وبتحية لا تقبل الشك من خلال وجود دير راهب بحيرا في بلاد الشام الذي قال لابو طالب بأن يكون حريصاً على ابن اخيه لان سيكون له شأناً عظيماً بالاضافة لتسليط الضوء على اليهود الذي كان همهم الشاغل هو القضاء على كل نبي او اي رسول يحمل دعوة سماوية فجاء الفيلم موسوماً بشجن وقلب المخرج الذي أخرج مشاهد الفيلم بكل شفافية ومصداقية جعلت الفيلم يقدم نفسه على انه فيلم ليس فيلم ديني ...
الخوض في قصة الفيلم ليس القصد فقط ولكن القصد الاكبر لماذا قدم مجيد مجيدي هذا الفيلم تحديداً حينما قال يجب على العالم الاسلامي أن يوظف كل امكانياته لاجل تجسيد الوجه الحقيقي للاسلام حيث رأى مجيدي ان الحملات العنيفة التي شُنت ضد فيلم محمد رسول الله جاءت نتيجة دوافع سياسية وليست عقائدية او ثقافية او اجتماعية وأشار بشكل مباشر الى السعودية التي حاولت تشويه الفيلم كون مخرج الفيلم من ايران والفيلم انتاج ايران ليس اكثر ..

اعتبر الفيلم اكثر الافلام الايرانية التي حققت ايرادات عالية حيث عًرض الفيلم في 40 دار عرض في طهران و88 دار عرض في بقية مدن ايران وتجاوز عدد الذين شاهدوا الفيلم في ايران النصف مليون مشاهد وتم عرض الفيلم في المهرجان العالمي للأفلام في مونتريال وهو أول مكان خارج ايران يعرض فيه الفيلم قبل ايران حيث تم عرض الفيلم لثلاثة ايام متتالية بناء على رغبة الجمهور وقد قام مدير تصوير الفيلم بتنظيم عرض خاص للفيلم في جمعية الافلام الامريكية في لوس انجلوس وكان في مقدمة الحضور المخرج المعروف وصاحب اهم ثلاثية سينمائية في العالم فرنسيس فورد كوبولا و امتدح الفيلم بشكل لافت والفيلم حسب مصادر موثوقة استمر التحضير له ثمانية اعوام وعرض في الكثير من دول العالم وكان من اهم العروض ذلك العرض الي اقيم في اهم مجمع سينمائي في الساحة الحمراء في موسكو التي تم عرض الفيلم فيها في حوالي ستين دار عرض والدليل على اهتمام الجانب الرسمي في ايران وحرصه على إنجاز هذا النوع من الافلام التي تحفظ للاسلام تاريخه المشرف فلقد قام مرشد الثورة الايرانية علي خامنئي اثناء تصوير الفيلم بزيارة موقع التصوير وبقي لمدة ساعة اطلع فيها على مراحل التصوير .
يبقى فيلم محمد رسول الله للمخرج الايراني مجيد مجيدي فيلماً تم صنعه بمهارة وحرفة سينمائية عالية المستوى وذكاء شديد ويُسجل للمخرج ابتعاده عن اي قضايا دينية واكتفى فقط بالنواحي الانسانية و الروحية و الاجتماعية فجاء الفيلم في درجة الامان و المصداقية لمخرج يريد أن يصنع سينما للتاريخ تخرج من القلب والعقل والروح ويتم وضع مجيد مجيدي في نفس الموقع الذي تم وضع المخرج السوري الراحل مصطفى العقاد حينما قام بإخراج فيلم الرسالة حينما اعتبر يومها بأنه مشوه للدين وان فيلم الرسالة يجب ان يُقاطع من كافة دول العالم الاسلامي ولكن اليوم
فيلما الرسالة ومحمد رسول الله باقيان أكثر من كافة العقول التي تدعو للتشدد و التكفير