2012/07/04

 أفريم بشار تنوعت مواضيع الترجمة وأشكالها في عصرنا الراهن، ولم تبقى مقتصرة على نقل العلوم والمعارف المدونة في الكتب والمخطوطات فقط، فمع ثورة الاتصال والمعلوماتية، وفورة الأقـنية الفضائية زادت أهمية الترجمة وتنوعت مقاصدها ومجالاتها. سأتطرق اليوم وبالتحديد، لمجال هام جداً من مجالات الترجمة، كونه يمس ثقافتنا المعاصرة وحياتنا اليومية بشكل مباشر، فهو يقتحم علينا بيوتنا ويندس رويداً رويداً في عقولنا وأخلاقياتنا عبر شاشة التلفاز وشاشات الأجهزة الأخرى متسللاً إلينا وبمحتوى المادة المترجمة ذاتها. هذا المجال هو ترجمة الأعمال الدرامية من أفلام ومسلسلات سواء بالترجمة النصية المعتادة كعنوان فرعي (Subtitle) على المادة نفسها مع بقاء اللغة الأصلية مسموعة، أو بمسح اللغة الأصلية كلياً والاستعاضة عنها بالدبلجة الكاملة للنص وهو الأخطر !. لا شك بأن الترجمة والنقل من لغة لأخرى مسؤولية، ومهمة نبيلة وأمانة يحملها المترجم عند نقلها، ولها أخلاقيات إنسانية ومهنية سواء كان المترجم محلّفاً أو غير محلف. وهذا ما عرفناه وعهدناه منذ القدم، حيث كان لحركة الترجمة والنقل الدور الكبير في تطور وازدهار حضارتنا العربية والإسلامية وذلك بنقل العلوم من اللغة السريانية والإغريقية واللغات الأخرى إلى اللغة العربية، قمنا بعدها بدورنا في تطوير هذه العلوم وإضافة معارف جديدة إليها ليصار إلى ترجمتها ونقلها بالعكس، من العربية إلى اللغة اللاتينية واللغات الأخرى. طبعاً ما زال للترجمة بعصرنا الراهن دور كبير في نقل العلوم والآداب والفنون من اللغات والثقافات الأخرى أو بالعكس، بهدف تبادل الثقافة والمعرفة، حيث باتت المعرفة واحدة من أهم عوامل القوة لدى أي شعب من الشعوب. وأدوات المترجم الأساسية هي: تمكنه من الموضوع المنقول، واللغات التي ينقل منها وإليها، وأيضاً النزاهة والأمانة والحياد والدقة في نقل النص أو المعلومة موضوع النقل. فإن خالف هذه الأمور يكون قد خالف مبادئ الترجمة ومصداقيتها، وخان أخلاقياتها المتعارف عليها إنسانياً ودولياً. من غرائب وعجائب ما نراه ونسمعه في مجال ترجمة الأعمال الدرامية من أفلام ومسلسلات وبرامج الصور المتحركة للأطفال، في أعمال بعض المؤسسات والشركات الإعلامية والأقـنية الفضائية العربية، ما يثير الضحك والسخرية، وما يثير الشك والريبة أيضاً، ويشير إلى وجود دلائل ما، للتطرف، أو لتعصب عرقي أو ديني، وراء هذا السلوك المتعمد، بدلالة تكرارها في أغلب أعمالها وترجماتها. الأمر الذي لم أستطع تبريره منطقياً وإنسانياً بشكل عام، وانطلاقاً من ثقافتي العربية وانتمائي لهذه الأمة أباً عن جد بشكل خاص. أنا مع جواز أن يحرف المترجم بعض الألفاظ التي قد تخدش الحياء العام في ثقافة ما في حين قد تبدو عادية لدى الثقافة الأخرى، فهذا أمر مبرر ومحدد وواضح، ولكنه لا يعود مبرراً على الإطلاق إن تجاوزنا التحريف بتسميات الأمور العادية، وعدم تسمية الأمور الواقعية بمسمياتها الحقيقية، فمثلاً: ما المبرر والدافع في أن يتم ترجمة كلمة "الكنيسة أو الكنيس" إلى (دار العبادة) وكلمة "الصليب" إلى (رمز ديني) وكلمة "القس أو الكاهن" إلى (المحترم) وعدم ذكر تسمية لقب البابا أو البطريرك أو الحاخام والاستعاضة عنها بترجمتها (رجل الدين أو كبير رجال الدين). الشواهد كثيرة، ولا شك أن أغلبكم لاحظها عندما يقارنها فوراً مع ما يسمعه باللغة الأصلية واكتشف بالتالي زيف الترجمة. هذه المشكلة قد تكبر وتترعرع في من لا يجيدون اللغة الأجنبية المترجمة، أو عند التوسع بأعمال الدبلجة للمسلسلات والأفلام واختفاء اللغة الأصلية، وستنمو مع أطفالنا وهم مستقبلنا ومستقبل أمتنا العربية كما لا يخفى عليكم، فعدم المصداقية معهم، تعني أننا نعلمهم بعدم قبول الآخر، ونجعلهم كالنعامة التي تطمر رأسها بالتراب كي لا ترى الواقع، وكأن العالم خارج هذه الحفرة غير موجود !. فما المشكل أو أين الحرام أو الجريمة، بحق ما نعتقد ونؤمن به، إن عرف أطفالنا أن هناك أديان أخرى، سماوية وغير سماوية ؟. وأين العيب إن عرفوا الأمور بتسمياتها ومعانيها الصحيحة، فهناك الجامع والمسجد والكنيسة والكنيس والمعبد البوذي والهندوسي والدير والمصلى والكاتدرائية والمزارات المقدسة... إلخ. كما أن هناك المشروبات المختلفة، غير الكحولية والكحولية، ومن بينها النبيذ بأنواعه (بدل الشراب) والبيرة أو الجعة (بدل شراب الشعير) والشمبانيا (بدل شراب الفقاقيع)، لا تضحكوا !!! - فلقد تفتقت قريحة مترجم ألمعي بترجمتها "شراب الفقاقيع". لا فقع الله لكم مرارة أو زائدة دودية - من هذا الجهل، وهذه الخيانة من قبله وقبل أمثاله، ومن يقفون ورائهم، بمبررات الحرص على معتقداتهم وثقافتهم. القضية ليست قضية عابرة وساذجة، كناية عن تبديل كلمات، فالقضية أكبر من هذا بكثير وما خفي منها لا شك أعظم. لذا يجب علينا أن نعي تماماً أهمية وخطورة هذا الجانب، لأنها جبهة إضافية من جبهات الصراع مع كل شكل من أشكال التطرف والتعصب وعدم قبول الآخر، وهي جبهة مفتوحة علينا في بيوتنا، الأمر الذي بات يهدد جوهر وروح ثقافتنا العربية وماضينا وحضارتنا ومستقبل أمتنا في رسالتها الخالدة.