2013/05/29

  نجيب نصير  التفكير بالدراما التلفزيونية ، يتطلب منا العودة إلى مسألتين مرجعيتين تقرران ضرورة وجودها، وضرورة تلقيها، وإلا لماذا علينا أن نصنع دراما، ولماذا علينا أن نشاهدها ونتابعها ومن ثم نتفاعل معها، من باب النقد أو الانتقاد، أو من أبواب المتعة والتأمل وربما تزجية الوقت الذي هو عمرنا الذي نملكه لمرة واحدة وفي اتجاه واحد، حيث نعطيه طواعية لمشاهدة الدراما متأكدين بطريقة ما، أننا لا نهدره. المسألة الأولى هي مسألة الدراما بحد ذاتها، وكيف أتفق أنها موجودة ولماذا؟ فتمثيل صراعات الوجود هو خطوة لم يكن بالإمكان تداركها لأنها ممارسة إنسانية معنية بالتعبير عن الذات المعطية والمتلقية، فمنذ بداية الوجود البشري العاقل والإنسان يحاول الارتقاء بالفكر عن طريق تشخيصه في الحكايا الأسطورية التي تحولت (ولما تزل) إلى طقوس دينية تتم استعادتها بأشكال فنية مبهرجة، وجل المطلوب هو الإصغاء ومن ثم التفاعل والارتقاء أي التغير، وهذا ما حول شكل الدراما (ومعه المضمون) من الإلقاء الشعري الشفاهي (الديني والمدني)، وحسب التكنولوجيا المتوفرة، إلى المسرح بتنويعاته وتطوراته، إلى الرواية في عصر الطباعة ومن ثم إلى الإذاعة فالسينما، ووصلت إلى التلفزيون في نهاية المطاف. إذاً لماذا الدراما، ولماذا تتغير هي ووسائل توصيلها؟ ولماذا نتغير نحن جراء مشاهدتها؟ وهل علينا أن نتغير فعلاً بسبب تلقيها؟ إنه سؤال الإبداع الذي لا تستطيع الإنسانية الاستغناء عنه، لأن فيه رؤية الذات على حقيقتها التي تتضمن إزالة المعطوب أو الرديء منها، استجابة لتطورات الحياة التي تغير في الثقافة والأخلاق والقيم. واليوم تبدو الدراما التلفزيونية من حيث المبدأ هي استمرار لتوق الإنسان للتفكير والتعبير والتعلم عبر الشكل  البهرجي الممتع في استعادة لسؤال الوجود بواقعه الحالي، الذي لا بد أن يكون حداثياً في شكله ومضمونه (بغض النظر عن موضوعه). المسألة الثانية وهي لا تكمن في الدراما وحدها، بل في التلفزة بشكل خاص وفي الإعلام بشكل عام، فعلاقة الإنسان  مع الإعلام (وهي علاقة مركبة جداً على أية حال) هي علاقة حداثية تخضع لآخر مبتكرات العقل البشري لتوصيل المعلومة المربحة آنياً ومستقبلياً، وحسب مصلحة المتحكم بالإعلام، وتأتي التلفزة بسطوتها  نظراً لسهولة استخدامها لتكمل هذا الدور الإعلامي الذي يمثل مصالحا سياسية واقتصادية وثقافية، ولتكون الدراما إحدى وسائله الفعالة، حيث تبدو وكأنها قادرة على تحقيق الهدفين الإعلامي والإبداعي من دون تقديم نفسها كفعل خيري تطوعي،  بل كفعل موضوعي تطلبه الذات الإنسانية من جهة، وتطلبه المصالح الإعلامية من جهة ثانية، ومن هنا يبدو النقد ضرورة دائمة وأكيدة لتصويب العلاقة بين الإبداع والإعلام. ولكن الإعلام نفسه هو أسير الاستقرار الثقافي المساير للهدوء الاجتماعي، ما يضعه، ودائماً، في مفارقة بين الحداثة الجامحة وبين التقليدية الخنوعة، فالحداثة تأتيه من حيث التقنيات المستخدمة (في البث، والتصوير، والتصنيع)، ومن حيث السلع التي يروج لها (من عروض الأزياء حتى نشرات الأخبار المصورة)، والتي تفترض تغيراً إذا لم نقل ارتقاء في المشاهدة ومجرياتها ونتائجها، ومع كل هذا ينتج الإعلام رقابة تتناقض مع السلعة التي يبيع، بل ويدعم موقفه بالاستشهاد برأي الجماهير التي تتحول إلى رقابة جماهيرية خشية اهتزاز منظومة القيم المستقرة التي على الإبداع (والدراما منه) خلخلتها لصالح المجوع العام اتساقاً مع العصر ومصالحه وتقنياته ومنطقه. في مجتمعات لا تعرف عن الدراما وأهميتها ودورها الكثير (أو القليل) يبدو أنه من السهل تسويق دراما مغشوشة، على الرغم من إدعاء هذه المجتمعات الاكتمال المعرفي نتيجة الاعتداد بالماضي الذي رحل، حيث لا طريقة للتعامل مع الأسئلة الوجودية للإنسان إلا التكرار والاجترار ولكن بصور تستخدم آخر ما توصل إليه العقل البشري من ابتكارات، متمثلين أقسى أنواع التمزق بين العيش في انسجام مع مصالحنا المعاصرة، وبين لحس مبرد الماضي والتنعم بطلاوة مجدنا التليد. يمكننا إعادة الأسئلة السالفة حول الدراما، والدراما التلفزيونية بشكل خاص وتمحيصها في رؤوسنا التي تعيش يومنا هذا، علنا نصل إلى سؤال أكثر جدية هو هل لدينا دراما؟.