2012/07/04

الدراما السورية لسان حال جمهورها
الدراما السورية لسان حال جمهورها

  علاء محمد - الخليج في بداية العام الحالي، دخلت الدراما السورية عامها الخمسين، على اعتبار أن العام 1960 والذي شهد ولادة التلفزيون في سورية، كان عام معرفة الجمهور السوري بكلمة “دراما”، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، مرت الدراما السورية واللهجات المتعددة في هذا البلد، بمراحل كثيرة ومتعددة، وبعضها متكررة، لكنها مع نهاية نصف القرن الأول من حياتها، استطاعت بشكل أو بآخر حرق كافة تلك المراحل، وذلك بالاعتماد على أهم العناصر التي تساعد على وقوف الدراما أو الفن ككل، في أي بلد، على أقدامها . في بحث سريع، أو قراءة، وربما إعادة قراءة لهذا التاريخ الطويل من الصراع مع الذات من أجل الوصول إلى الكرسي الذي تجلس عليه هذه الدراما، يتبين أنها كانت مختلفة تماماً عن أي دراما في أي بلد آخر، ليس عربياً وحسب، بل على مستوى العالم، وذلك إذا ما أخذنا في الاعتبار أنها الوحيدة بين نظيراتها التي لعبت ولسنين طويلة -ومازالت- دور السينما، كما نابت عن المسرح في إشغال المشاهد، وهي وللإنصاف، ملكت كل عناصر الفن في وقت واحد، فكانت سينما مؤثرة حيناً، وكوميديا ضاحكة وساخرة يوماً، وكوميديا مبكية أياماً . الدراما السورية ومنذ الأبيض والأسود (فترة الستينات والسبعينات)، ارتأت أن تكون لساناً ينطق به جمهورها، فهي التي فتحت مذّاك الحين حواراً طويلاً وصريحاً مع الحكومة في بلد يقال عنه في الخارج إنه مقفل ولا حوار فيه، لكن الخارج هذا ربما لا يعرف شيئاً عن مسلسلات وأعمال كوميدية سلطنت في العقدين الأولين على مجيء التلفزيون، لتنقّب في أروقة الدوائر الحكومية عن كل ما يسمى تقصيراً أو فساداً، وذلك بقلم الراحل محمد الماغوط، والذي تمكّن نجوم كبار أمثال دريد لحام ونهاد دقلعي ورفيق سبيعي من تسويق معظم كتاباته في مرحلة مفصلية من تاريخ سوريا المعاصر، ليكون المواطن في تلك المرحلة مطلعاً على كل شيء، عبر شاشة صغيرة فيها لونان فقط، هما الأبيض والأسود . وإذا كانت الدراما السورية قد تمكنت وبسرعة من بسط سيطرتها على مفاصل الفن السوري، فإن ذلك لم يكن ليتحقق لولا الدعم الكبير الذي تلقته من كل مفاصل ذاك الفن والقائمين عليه، ما أوجب على كل الفنون أن تخضع لها، ومن هنا كان موقف أبي الفنون (المسرح) واضحاً في هذه الناحية عندما قام بإهدائها كل نجومه ووضعهم في تصرفها، فأصبح نجوم المسرح دراميين بين ليلة وضحاها، ولم تكلّف هذه الدراما نفسها عناء البحث عن اختصاصيين فيها، بل قطفت أهم العناصر المؤدية لنجاحها من أغصان شجرة ماتت في سبيلها . كذلك لم تبخل السينما في سوريا عن تأييد الدور الذي ارتأت الجهات المختصة أن تكلف بأدائه الدراما، بل سارت في نفس النهج، فقدمت كل فرسانها لها، فخفّ الإنتاج السينمائي وأحياناً انعدم إلى (ما تحت الصفر)، في فترة كان الإنتاج الدرامي يتم بوجوه سينمائية ومسرحية، وبعدد وافر من الإنتاجات . وعندما دخل الإنتاج الخاص أرض الدراما في سوريا، رفرف كل شيء في السماء، زاد عدد الأعمال الدرامية سنوياً إلى عشرة أضعاف ما كان ينجز قبل ذلك، فزاد عدد الممثلين بعد أن أصبح المعهد (المسرحي) يرفد التلفزيون بفريق من الموهوبين كل عام، كما ارتفعت أجور الفنانين، والأهم من ذلك أنها زادت إلى درجة تكاد لا تصدق من نسبة المسموح بعرضه عبر الشاشة المنزلية، فما كان ممنوعاً في الثمانينات مثلاً أصبح مسموحاً في التسعينات والألفية الجديدة، كما سمح بعرض حالة المجتمع كما هي بشكل يوحي بأن قراءة يومية للمواطن يتم تسجيلها على ورق ثم تتجسد عبر الكاميرا لتصبح مشهداً يفاجئ المشاهد وهو يرى شبه ذاته عبر مرآة موجودة في غرفته (الشاشة) . ولم يعد من شيء ممنوعاً سوى المس بالأديان أو بالعادات والتقاليد لأي فئة أو منطقة أو التهكم بطريقة غير منطقية على جهة ما . وفي السياسة، تأكد الدراميون تماماً أن كل شيء مسموح عرضه إلا المس بالأمن الوطني أو القومي أو التشهير بالقيادات في البلد، مع السماح بالنقد الذي اشترطت الرقابة ومن وراءها أن يكون بنّاء . وفي قراءة مختصرة لعناوين ما تناولته الدراما السورية طوال نصف قرن، يبرز دورها في إيقاظ التاريخ من سباته، فتحدثت عن كل العصور (الجاهلية ثم الإسلام بمراحله كافة بما فيه من عصور أموية وعباسية، إلى مرحلة الانهيار العربي والاحتلالات التي تناوبت على حكم العرب حتى يومنا هذا) . وفي التاريخ الذي تم عرضه في الدراما السورية، لم يؤخذ برواية واحدة، بل حضرت الاجتهادات وانبرت الأقلام المتضادة ليقول كلّ كلمته، إذ تجسدت بعض القصص التاريخية، والتي هي مثار جدل بأكثر من عمل، وكان كل عمل مكتوب بفلسفة جهة مختلفة عن سابقتها .  أما في قضايا الأمة العصرية، فكانت الدراما السورية على الموعد، لتعّرف عن نفسها بأنها دراما الالتزام، فكانت فلسطين حاضرة في عشرات المسلسلات والتمثيليات والسهرات منذ الستين وحتى اليوم، وشوهدت قبل النكبة وأثناءها وبعدها، مروراً بمراحل الانتفاضات، وصولاً إلى المشهد الحالي أما في المجتمع المعاصر، والذي لا يمكن تشخيصه بجرة قلم ولا بعمل، فقد دأب السوريون على إنتاج أكثر من عشرين عملاً في العام الواحد يتحدث عن يوميات البلاد، وبرتز في هذه الدراما حالة مكاشفة غير مسبوقة، إذ لم يعد يوجد مكان للمجاملة في عرف السوريين، وتم تقديم أمراض المجتمع المزمنة والمستحدثة بصورة أقرب للواقعية، فكان “الإيدز” مثلاً حاضراً في أكثر من خمسين عملاً درامياً سورياً منذ دخوله البلاد العربية . أما على مستوى الماضي (المجيد) فقد احتفت هذه الدراما بماضي كل العرب، وإن انحازت في السنوات الأخيرة لماضي السوريين وهي معذورة في ذلك، فكانت البيئة موجودة بوفرة في الإنتاجات السورية، واحتلت بعض المسلسلات التي تتحدث عن دمشق القديمة مراتب متقدمة . وبعيداً عن استعراض ما تم تناوله في دراما من خمسين عاماً، يكفي للبرهان على أهيمتها لدى البلدان العربية كافة، أنها الدراما الأكثر استفادة من المال الخارجي بين نظيراتها في العالم العربي، إذ لا يكاد يمر عام منذ عشرين سنة وحتى اليوم إلا وينتج بحدود العشرين مسلسلاً سوريّاً بمال عربي غير سوري، ويكون عناصر العمل فيه (أبطاله، ممثلوه، مخرجه، كاتبه) سوريين، وفي هذا ثقة عربية بهذه الدراما، التي تبدأ اليوم رحلة نصف القرن الجديد، وهي تقف على قدميها، وتسير بخطوات واثقة نحو مكانة يرى كثيرون أنها لم تبلغها حتى الآن، ولو أنها تصدرت قائمة المسلسلات العربية لسنوات عدة في العقد الأخير.