2012/07/04

شكري الريان

عندما بدأت عروض مسلسل "عائلة خمس نجوم" في بداية التسعينات من قرننا الماضي، وقبل الدخول في السلسلة التي بدأ عدد نجومها يرتفع وعدد مشاهديها بالمقابل ينخفض، كنا وكمشاهدين وفي الجزء الأول من السلسلة نتعامل وللمرة الأولى وعبر الشاشة مع شخصية من طراز مختلف، "فرحان" الذي أدى دوره وبتميز الفنان "فارس الحلو". والاختلاف في الشخصية لم يأت فقط من طريقة الأداء الطريفة، ومن ملامح الشخصية التي تمثل "ضائعا" من الطبقة الوسطى كل همه شرب المتة والبقاء بجوار خطيبته "سمر"، بل وأيضا من اللهجة "الحمصية" والتي كانت تظهر على شاشاتنا للمرة الأولى في دور رئيسي.. كانت فعلا المرة الأولى التي تظهر فيها "نفحة" من بيئة أخرى. ولعبت هذه النفحة دورا في جذب الانتباه إلى عمل حقق في وقته صدى كبيرا. بعد فترة دخل الفنان "هيثم حقي" بكاميرته إلى بيئة أيضا "مختلفة" ونقل لنا وعبر "خان الحرير" تفاصيل الحياة في "فسط حلب"، سوقها، تجارها، ناسها، حتى روائح بهارها.. وأخذ العمل مكانته التي هو جدير بها، متابعة، وجماهيرية، وجدلا كبيرا في ذلك الوقت.. وفي بداية التسعينات أيضا وكنا كعرب جميعا قد ذهب بنا الظن إلى أننا حفظنا مصر "صم" وعن ظهر قلب، فاجأنا الفنان "أسامة أنور عكاشة" بواحدة من تحفه وكانت "أرابيسك"، حيث دخل بنا "المعلم" عكاشة إلى عمق البيئة التقليدية في القاهرة التي ظننا أننا بصمناها، ليرينا وجها جديدا كليا عبر "حسن أرابيسك" معلم المهنة التي أجادها العرب عبر مئات السنين والتي نعرفها من ذاكرة بصرية غنية، إن لم يكن من بيوتنا فمن بيوت أهالينا وأجدادنا، حيث ظهرت المهنة والمعلم معا بصورة معاصرة جديدة كل الجدة وبعيدة عن التناول النمطي المكتفية دائما بالإشادة بأمجاد عفى عليها الزمن، وحيث بتنا على احتكاك يومي مع "وريث" هذا "المجد" ومعاناته اليومية في أبسط شؤون الحياة..  ومرت سنون لنجد أنفسنا أمام تجديد من نوع آخر، وكانت "البيئة" المعاد اكتشافها من جديد بطلة الموقف. بدأت الأعمال الخليجية بالظهور على الشاشة بقالب جديد ومعاصر بل وجريء في بعض الحالات. فمن "نكشات" طاش ما طاش وبالذات في موسم 2006، الموسم الذي بشر بتناول "مختلف" لقضايا كان مجرد التفكير بها في السابق ضربا من ضروب العبث إذ لا يمكن لأحد أن يتجرأ ويفكر حتى في إنتاجها، إلى التناول الرزين والجذاب لتلك البيئة ومن زاوية أخرى عبر "أبله نوره"، صار للدراما الخليجية حضورها وجمهورها "العربي".. أربعة أو خمسة أمثلة ذكرتها أعلاه وأنا على ثقة بأن من قرأها يعرف بالضبط عماذا أتحدث. فكل تلك الأعمال شوهدت وتوبعت في مجالها الطبيعي ومن قبل جمهورها المتوجهة إليه، إنه الجمهور العربي. وهذه الأعمال ما بقي منها في ذاكرة الناس إلا تلك "الإضافة" حيث كانت البيئة دائما ولو عبر لهجة شخصية من شخصيات العمل، هي أبرز أبطال العمل. إذا فنحن أمام تنوع في البيئات وفي طرق التناول موجهة بالكامل لجمهور "واحد" بقي كذلك في نظر العاملين في قطاع الإنتاج الدرامي والمتابعين والمعلقين، بالرغم من أنهم قاموا بتقسيم مراكز الإنتاج بالاستناد إلى جانب واحد فقط، إنه الجانب "الجغرافي". فصار عندنا دراما سورية، ودراما مصرية، ودراما خليجية. فإن كانت الجغرافيا وحدها كافية لإعطاء هوية كاملة مكتفية بذاتها عن أي شيء آخر لكل نوع من أنواع الدراما المذكورة أعلاه، فبموجب هذا التعريف صار من باب أولى أن نطلق تعريفات أدق. فنصبح أمام دراما.. حمصية، اسكندرانية، حلبية، صعيدية، إماراتية، شامية، جداوية (نسبة لمدينة جدة التي يقول زائريها أن تختلف كليا عن مدينة الرياض.. وكنا سنقول دراما رياضية ولكنها ستفهم بأنها تتعلق بملاعب كرة القدم فقط، كوننا كعرب عموما لا نعرف من الرياضة إلا كرة القدم!!).. وهكذا.. والسبب أن استخدام منطق أحادي الاتجاه في تحليل ظاهرة ما، سيدفعنا ولا بد من المضي بهذا المنطق إلى نهاياته.. ونهايات المنطق "الجغرافي" في تعريف إنتاج إبداعي ما، هو المضي به إلى "مناطقه" وحتى "حواريه" إن أمكن. وسكان دمشق يعرفون بالتفصيل ما هي الفوارق بين سكان حي وحي آخر في نفس المدينة عبر طريقة لفظ بعض الكلمات.. فهل سنصبح لاحقا أمام دراما "شاغورية"!!!.. ولكن المشكلة أننا نتحدث فعلا عن عمل أهم سمة من سماته هي أنه إبداعي، تتداخل فيه الكثير من العناصر، وإن أطلت البيئة من ضمن ثنايا العمل فهي تطل كتلوين يعطي العمل نكهة خاصة وجاذبية لا تقتصر في تأثيرها على أبناء تلك البيئة وحدهم، بالعكس إنها تجذب الجميع إليها. فما هو السر في كون الجمهور "عربي" والإبداع "صالحانيا" مثلا أو "خان خليليا" أو.. عدوا ما شئتم من أحياء وحواري أية مدينة عربية وستجدون تلك "النفحة" التي تجذب الجميع إليها؟!!.. إنها بالضبط هذه الإلفة القادمة من إحساس عميق وراسخ بأن "فرحان" الحمصي موجود في القاهرة كما "حسن أرابيسك" المصراوي موجود في جدة.. كما.. لا أعرف عدد الشخصيات التي أداها كل من "القصبي" و "السدحان" ولكن وبالتأكيد لن نتعب كثيرا في العثور على هذه "الشخصيات" في بغداد.. أو الجزائر.. إنها نفس التركيبة "الثقافية" التي أنتجت هذه الشخصيات وأوصلتها إلى ما وصلت إليه من.. أزمات نفسية واجتماعية عميقة.. مواقف كوميدية محرجة.. مواجهات تكاد تكون مستحيلة ومع ذلك تخوض تلك "الشخصيات" فيها.. إلى ما شئتم من مواقف يمكن للدراما كإبداع ان تضيئها باحثة عن "الإنسان" في كل تلك المواقف. والإنسان هذا ليس أحادي الهوية بالطبع ولكنه في نهاية المطاف يبقى ابن ثقافة أنتجته، إنها الثقافة العربية.. ومصيبة هذه الثقافة وفي نظر العاملين فيها، أنها لا تنتج دراما على شاكلتها وباسمها أي دراما عربية. بل تنتج دراما مصرية مثلا، أو سورية، أو خليجية، أو "سومصرجية" اختصارا للوقت والتكاليف. ولا أدري كيف سيكون الموقف مع دخول "مراكز" إنتاج جديدة إلى الساحة وهي لابد ستدخل. فإن دخل العراقيون والمغاربة والسودانيون واليمنيون.. كيف سنسمي تلك الدراما؟!!.. هل سننحت مصطلح جديد أم نعود إلى أصل أبسط وأوضح ويكفي الجميع؟!!.. لا أعرف حقيقة مما تشكو كلمة "دراما عربية"؟!!.. أم أن هذه العبارة "الدراما العربية"، ولأننا كبشر جبلنا على الصراع، ستأخذنا إلى سؤال لا أحد يود الإجابة عليه؟!!.. أين موقعنا كعرب في المشهد الثقافي العالمي العام؟!!.. وبالتالي يصبح أسهل على الجميع أن يتنافسوا بين بعضهم باعتبار أن "حارتنا ضيقة وعارفين بعض"!!..