2012/07/04

الدراما . . والحقيقة المقدسة..!
الدراما . . والحقيقة المقدسة..!


عمر محمد جمعة - البعث


تعيد الحملة التي تعرّض ويتعرّض لها مسلسل «في حضرة الغياب» الذي يحكي عن محطات محدّدة في حياة وتجربة الشاعر الراحل محمود درويش، إلى الأذهان ما تعرّضت له كل المسلسلات والأعمال الفنية التي عرضت وقاربت السيرة الذاتية لأي شخصية أو مبدع عربي معاصر، بدءاً من أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وجبران خليل جبران، مروراً بأسمهان ونزار قباني، ووصولاً إلى صباح ومحمود درويش هذا العام.. في ظاهرة متفاقمة تشي أنه ما مرّ، ولن يمر موسم درامي أو عمل كهذه الأعمال دون ضجة ترافقه منذ كتابته وإعداده ووضعه حيّز التصوير والتنفيذ وحتى الانتهاء من عرض آخر حلقاته!.

فما هي المعايير التي يعتمدها البعض في النظر إلى هذه المسلسلات التي لا تنفصل مطلقاً عن أشكال الدراما الأخرى وتوجّهاتها؟.. مؤكدين أن الفارق كبير بين الحكم النقدي الذي يستند إلى مقاييس ومعايير فنية متقنة تهدف إلى تشريح العمل وتفكيكه والإضاءة على سلبياته قبل إيجابياته، والمحاكمة الرعناء والثرثرة المجانية التي لا هدف ولا همّ لها سوى إدانة منتجي هذا العمل أو ذاك بذرائع شتى لا تستند بالطبع إلى دلائل وقرائن منطقية يمكن أن تقنع أحداً، والمؤلم أكثر، بل المؤسف أن نرى كاتباً هنا وآخر هناك، يتشدّق ويطلق أحكاماً جاهزة تفضح جهله بمرجعية وجدوى هذه الأحكام، بل بأبسط قواعد النقد الفني!!.. غير أن الأشدّ إيلاماً وحيرة أن يحاكم كاتب أو صحفي ما عملاً درامياً – بذل صانعوه جهوداً كبيرة- بناء على ما قيل أو روي له، أو الاكتفاء بمتابعة حلقة واحدة لا غير تختزل «ردحه وتجديفه» الذي يسميه البعض، زوراً وبهتاناً، نقداً فنياً.

لقد أفضى إلباس فنانينا وشعرائنا وكتّابنا، ولاسيما بعد رحيلهم، لبوس القداسة، والقول بـ «الحرص على تاريخهم»، إضافة للشروط المسبقة لذويهم أو محبيهم، إلى منزلق خطير، حرف بوصلة الدراما عن اتجاهها الحقيقي، وربما سيؤدي مستقبلاً إلى إحجام الجهات الإنتاجية والفنانين والمخرجين عن التصدي لشخصيات أحبها من أحبها، وكرهها من كرهها، مشيرين إلى أنه لا يجوز بأي شكل من الأشكال تغييب الجانب الإنساني اليومي لهذه الشخصيات، أو لأي مبدع كان، وخاصة إذا علمنا أن فيكتور هوغو وفان كوخ مثلاً كانا أشدّ الناس فقراً في حياتهما، وأن كثيراً من المبدعين العرب عاشوا تقلبات وتناقضات تغري وتدفع أياً منا للاطلاع أكثر على تفصيلات صغيرة مهملة أثرت وكوّنت هذه القامات الإبداعية التي أحببناها، والتي لن نستطيع مهما حاولنا عزلها وتطهيرها أن نفرغها من بعدها الإنساني.

فمن منا يستطيع الجزم والادّعاء بأن أم كلثوم أو صباح اللتين تزوجتا غير مرة، فعلتا ذلك رغبة بالزواج وحسب؟ ومن يستطيع أن يتهم نزار قباني ومحمود درويش بأنهما بما يتمتعان به من نرجسية الشاعر كانا زيري نساء؟.. أليس المفروض والطبيعي في منطق الحياة أن يكون المبدع إنساناً يحب ويكره، ينجح ويفشل، يضحك ويغضب، أم المطلوب فقط أن نظهر - وإرضاء لرغبة البعض- هؤلاء المبدعين وكأنهم ملائكة أو أناس منزّهون؟!.

قبل سنوات عدّة قدّمت الدراما المصرية مسلسلات تاريخية نذكر منها «موسى بن نصير، عصر الأئمة، عمر بن عبد العزيز، هارون الرشيد.. وسواها»، وقد بالغ كتّاب ومخرجو هذه الأعمال كثيراً في إضفاء مظاهر القداسة على هذه الشخصيات – ونعتقد أنهم محقون في ذلك- لأنها جزء من إرثنا ووجداننا الديني والحضاري، إلا أن ثمّة من اعترض على هذه القداسة مطالباً بإظهار الصورة الحقيقية لهذه الشخصيات دون تأطيرها بأي إطار يجمّل تاريخها أو إنجازاتها، فيما نرى أن الأصوات التي تتعالى اليوم إزاء المسلسلات التي تتناول شخصيات معاصرة، تطالب بتقديم هذه الشخصيات بلبوس منزّه مقدّس يراعي كما يدّعون تاريخ هذا المبدع ومشاعر أهله ومحبيه، ما يؤكد غياب المعيار النقدي الحقيقي الذي يستند إليه هؤلاء وأولئك في قبول أو رفض أي عمل، وإدانة أو اتهام صناعه ومنتجيه.

إذاً فالنظرة القاصرة غيّبت أشياء ومقولات شتى، ولم ترَ من مسلسل «في حضرة الغياب» مثلاً إلا قصة الشابة رهف أو ريتا أو نجلاء، في ادعاء مستهجن أنها أساءت للشاعر الراحل محمود درويش حين أظهرته، وكأن لا همّ له إلا عشق النساء وجرهنّ للوقوع في حبه.. وكذا الأمر ينطبق على ما ذكرناه من مسلسلات، سورية كانت أم عربية.

أحد الأصدقاء تندّر بتفنيد هذه الظاهرة قائلاً: الحمد لله أن أبناء الحجاج بن يوسف الثقفي لم يعيشوا حتى اليوم ليروا أباهم في مسلسل «عمر بن عبد العزيز».. وإلا لكانوا فتكوا بالفنان عبد الرحمن أبو زهرة الذي أدى دور الحجاج باقتدار مذهل أظهر دهاءه وقسوته التي لم يستطع أن ينساها التاريخ أبداً.