2012/07/04

الدراما والواقع . . باب الحارة – الجزء السادس
الدراما والواقع . . باب الحارة – الجزء السادس


عبد الكريم العبيدي- البعث

شهدت ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم ظهور وتوسع البث الفضائي لأول مرة في تاريخ البشرية، وأصبح بمقدور كافة الناس مشاهدة المتاح وغير المتاح..المباح والمحرّم.. الضّار والنافع، وتماهت المقاييس للدرجة التي اختفت معها الحدود الفاصلة للأشياء والمفاهيم، لا بل إن انقلاباً جذرياً حدث في أدق التفاصيل التي عدت يوماً من المسلّمات. كلّ ذلك صنعه الإعلام الموجه بدرجة كبيرة جداً، حتى بات هذا الإعلام غرفة عمليات غير منظورة للعديد من الانقلابات في حياة الجيل الذي عاصر ويعاصر المرحلة موضوعة الحديث.

في حديث خاص مع الدكتور والباحث المصري أشرف البيومي، على هامش الندوة الدولية عن المتغيرات في المنطقة العربية التي أقيمت مؤخراً في الرقّة، قال: إن تأثير الإعلام قد يكون حاسماً لجهة حرف أو تشويه الحقائق التاريخية لدى فئة عمرية من الشباب العربي لم تعاصر الحدث لكنها تستقي معلوماتها من الدراما تحديداً، يليه وسائل الإعلام الأخرى كالإنترنت والفيسبوك والتويتر. وضرب مثلاً على ذلك بالقول إن أغلب شباب ثورة مصر هم في أعمار العشرينيات ومع ذلك ترى أن مجموعات مهمة منهم قد رفعت مؤخراً صور الملك فاروق وأنور السادات، في وقت إن النسبة الأعظم منهم لم تعاصر المرحلتين!.. والسبب -برأيه- يعود إلى الدراما التي أظهرت الرجلين كملائكة!!

ولأننا كنّا شهوداً على تلك الانقلابات في المفاهيم منذ أصبح " التقدمي" رجعياً، واليساري يمينياً، واليمين مطلباً، والعنف ضرورة! والحديث في الوطنية..حاجة بقى! والأزعر ثائراً جيفارياً، والحشّاش..ربّي يسّر! والانتهازية دورة حياتية..واختزلنا كل ثوراتنا ونضالنا من أجل استقلال ناجز بشعارات نيو ليبرالية تختزل في الحرية الفردية  وبدع منظمات المجتمع المدني!.. فقد عدنا بفضل الصورة الدرامية أيضاً إلى عصر الحواري لغة وسلوكاً، وأصبحت عرطوز مثلاً " قرية مستقلة " وتلكلخ "إمارة" ولكل منها بابها وعكيدها وأبضاياتها ورجالات عند اللزوم !..لا بل إن المفردات التي يستخدمها هؤلاء المحتجون في الشارع، مأخوذة دون نقصان من مفردات – مسلسل باب الحارة – مثل " قولو الله – وعواينية – وأبو شهاب.. الخ". وصار بعض الشباب يتبادلون الأسلحة، الناري والأبيض ويكيدون لبعضهم البعض بنفس الطرق الدرامية ولحسابات شخصية " ما حدث في منطقة القدم مؤخراً " حتى بات الناس يتداولون وصف ما يجري في الشارع تندّراً ب" باب الحارة - الجزء السادس "!!.

السابقة الأولى في تأثير الدراما على المجتمع لم تبدأ مع الحالة السورية بالتأكيد، بل سبقتها الدراما المصرية في تناول هذه الظاهرة الخطيرة، ففي فيلم خالد يوسف " دم الغزال " بطولة نور الشريف ويسرى ومنى زكي، الذي يعرّي فيه أساليب القوى الظلامية التي تستغل حاجات الناس البسطاء ومطالبهم لترفعها من مستوى المطالب الحياتية إلى مستوى المطالب السياسية، ويستعرض لجوء تلك القوى إلى إنشاء الكانتونات المناطقية وعزلها وتحويلها إلى تجمعات بشرية تأتمر بأمرها، لها أميرها ووزراؤها وقوى تنفيذية عمياء، تأتمر بأمرها ويا ويل من يخرج عن طوعها!. ولعل طريقة صعود شخصية "الطبّال" الذي يستجير بالقوى الظلامية لتحقيق انتقام شخصي ثم محاولته الاعتداء على راقصة في منزلها بعد أن أصبح هو أميراً لإحدى تلك الجماعات، وقد كان سكرجياً وحشاشاً وقوّاداً فيما مضى. ويدلل الحوار الذي دار في الفيلم بين أحد المتورطين في جريمة إرهابية ضد قوات الأمن وضابط يحقق معه على عمق مأساة تأثير هذه القوى على البسطاء من أفراد الشعب عندما حاوره " يابيه لو جالك أمر من رئيس الجمهورية بتعمل إيه ؟" يجيبه الضابط " أنفذ الأمر فوراً" يرد عليه المتورط:" وأنا جالي أمر من رئيس جمهورية حتتنه!! ومقدرش ما أنفذوش" .

ودون رصاص أو إكراه أو ضرب، يفسر كاتب نص درامي قوي وسيناريست ذكي ومخرج كبير عمق الأزمة التي تضرب مجتمعاتنا العربية، ويصف تأثيرات رياح التغيير القادمة من الغرب التي تحمل حاجات تتجاوز حاجاتنا وتروج لها على نحو رومانسي، كما حاول وصف ما يحدث في الشارع العربي رغم دمويته بـ " الربيع العربي ".

إذاً، للدراما وجها تأثير، وكما قال الناقد العربي الكبير محمد مندور يوماً في الإنتاج الفني الدرامي " زي الملوخية تسقيها وتديها كل اللي عندك بس في الأخير مش هي الملوخية اللي كنت تحلم بيها . بس جنبها تطلع ملوخية شيطاني شكلها مفيش بعد كده أما طعمها يالطيف!!".