2012/07/04

الرقابة الجديدة لا ترحم
الرقابة الجديدة لا ترحم


مارلين سلوم - دار الخليج

انبشوا في الدفاتر القديمة، افتحوا الملفات، فتشوا عن ثأر قديم أو قضية “ساخنة” يمكن إثارتها الآن وفي هذا التوقيت بالذات، كي تلقى ردود أفعال وتهيّج الشارع وتنجح في تفرقة الصفوف وإثارة الذعر بين النفوس .

افتحوا الملفات الشخصية لتحاسبوا الناس على ماضيها وعلى أعمالها، طالما أن الساحة مباحة وكلاً يطالب بحقوقه، وينتهز الفرصة ليجد لنفسه مكاناً فيضمن أن صوته سيلقى صدىً ويحدث نوعاً من البلبلة .

هذا هو الحال الآن في أكثر من دولة عربية، وكأن عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والحياتي ككل غير كافٍ، ليأتي من يجعل القانون عصاً يهدد بها كل من يخالف توجهاته . ولأن مصر تحاول أن تتلمس طريقها نحو التغيير، يبادر أفراد وجمعيات وأحزاب ومنظمات إلى شدها من يدها كي تسلك المسار الذي يختاره كل طرف لها، ولكي يصبح الغد ملكهم وحدهم، وتصبح “البلد” لينة تلبي مبادئهم وتنهج نهجهم .

كثر خافوا على مستقبل الفن حين فاز حزبا “الحرية والعدالة” الإخواني و”النور” السلفي في الانتخابات البرلمانية وحصدوا النسبة الأكبر من المقاعد . لكن أحداً لم يخطر بباله أن يخاف على الماضي، وأنه سيأتي سريعاً من يحاسبه عليه ويدفّعه اليوم ثمن ما قاله أو قدمه قبل 16 عاماً، مثلما حصل مع الفنان عادل إمام الذي وجد نفسه فجأة متهماً ومحكوماً عليه بالسجن بسبب “ازدرائه الدين الإسلامي” في أكثر من فيلم . هل هو انتقام وثأر نام عنه أصحابه طوال سنوات قمعهم من قِبل النظام السابق، إلى أن جاءت ثورة 25 يناير فقرروا تنفيذه؟

من الطبيعي أن يتعرض أي فنان للمحاكمة في قضايا وأن يدخل السجن، فهو إنسان من الممكن أن يخطئ، ولا أحد فوق القانون، لكن هل من الطبيعي أن يأتي من يحاسب الفن والسينما وأهلها على أعمال قدموها قبل سنوات طويلة ويطلب محاكمتهم الآن لأنهم ما زالوا على قيد الحياة؟ ماذا كان مصير تلك الأفلام لو  لا سمح الله  كان الفنان عادل إمام غادر الحياة قبل أن تولد الحرية في 25 يناير؟ هل كانت ستحرق أم تتلف من أرشيف السينما المصرية؟

نذكر أن الكنيسة القبطية استنكرت صورة الرجل القبطي المتشدد في فيلم “ألوان السما السبعة” وشن البعض حملات ضده وحاولوا منع عرضه، لكنه رأى النور ووصل إلى كل المشاهدين ومازالت القنوات الفضائية تعرضه بين الحين والآخر، وهو يُعد من الأفلام القوية التي تم إنتاجها في السنوات الأخيرة . فهل يجب محاكمة محمود حميدة وليلى علوي الآن على هذه الصورة التي قدما فيها الأسرة القبطية، والتي بدت متزمتة وقاسية؟ أم هل من المفترض التحريض عليهما الآن خصوصاً أن ليلى من أنسباء الرئيس السابق؟

القضية ليست محصورة بشخص عادل إمام وما تضمنته أفلامه المقصودة في التهمة، بقدر ما هي قضية أشمل وأعم تنذر بموجة من “الرقابة” الآتية على ظهر الثورة، تهدد الفكر والإبداع وحرية الرأي . موجة يبدو أنها تتسلل إلى الفن رويداً رويداً، ليجد الفنانون أنفسهم أمام نوع آخر من النضال، وعليهم أن يقلبوا البندقية إلى الكتف الآخر كي يكسبوا رضا أهل الحكم والسياسة الجدد، ولا نعني المتربعين على كراسي البرلمان فقط، بل كل من يرفع رايتهم مهما “صغر شأنه” . وإلا بماذا نفسر ما حصل في حرم جامعة عين شمس، حيث “اضطرت” إدارة كلية الهندسة إلى فسخ اتفاقها مع أسرة مسلسل “ذات” وإعادة المبلغ المدفوع لها مقابل السماح بتصوير بعض المشاهد فيها؟

ما هو “ذات”؟ هو مسلسل تنتجه شركة “أفلام مصر العالمية” عن رواية الكاتب صنع الله إبراهيم، كتبت السيناريو مريم نعوم وتخرجه كاملة أبو ذكري . أما لماذا تم طرد فريق عمله من الكلية؟ فلأن بعض الطلاب اعترضوا على ملابس الممثلات فقرر عميد الكلية منع التصوير “حقناً للدماء” . ولعل أكثر ما يلفت في الحادثة، انصياع العميد لرغبة طلاب الإخوان الذين اعترضوا على الملابس، وخوفه من “الدماء” التي ستراق في الكلية إذا لم يستجب لمطلبهم، وإصرار هؤلاء على منع التصوير “إلا إذا عدلت الأزياء لتستجيب لرغبات الجماعة” .

والمعروف أن أحداث المسلسل تدور في السبعينات، ومن الطبيعي أن ترتدي الممثلات أزياء تلك الفترة . فهل ما حصل ينبئ بغدٍ لا يرحم، يسمح لأي كان، حتى إن كان تلميذاً، أن يهدد بالفوضى والعصيان والقتل إذا لم تنفذ إرادته؟ وهل عيون الرقابة الجديدة ستلاحق السيناريوهات والروايات على الأرض لا على الورق، لتقص و”تلزق” ما تشاء منها وتتدخل حتى في أزيائها بغض النظر عن السياق الأدبي والفني للمسلسل أو الفيلم؟

حين بدأت تنتشر موجة مخاوف الفنانين من تشدد الإخوان المسلمين والسلفيين وفرضهم شروطاً صارمة على الفن وأهله بما يحد من حرية الفكر والإبداع، حسبناها أوهاماً وأحكاماً استباقية يصدرها الفنانون على “السياسيين الجدد”، خصوصاً أن كبار “الجماعة” أكدوا وقتها أن لا أحد سيمس الفن، وفضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب أصدر، بالاتفاق مع القوى السياسية المختلفة، وثيقة الأزهر المشهورة والتي تضمن حرية الرأي والإبداع الفني والأدبي في مصر . لكن ما يحصل يعيدنا إلى حيث توقف الفنانون لنخاف مثلهم ونسأل معهم:

هل قدر الفن أن يُحاصر في كل العهود والأزمنة ليسيّره كل عهد وفق أهوائه لا وفق ما يقتضيه الإبداع وما يتناسب مع الأخلاق والمجتمعات؟

هل مقبول في الوقت الذي تلوح فيه أفق التفاؤل من “فك أسر” فيلم “المنصة” للسيناريست بشير الديك بعد أن “سجنه” النظام السابق 15 عاماً، لأنه يتناول اغتيال الرئيس الراحل محمد أنور السادات، ويتوافق مع تطلعات “الجماعة”، أن يعتقل الفنان عادل إمام وتتم محاسبته عن فيلمه “الإرهابي” الذي شاهده الناس قبل نحو 16 عاماً؟

هل علينا أن نتفاءل ونصدق ما قاله قبل أسابيع مسؤولون في جماعة الإخوان عن حرية الفكر والإبداع في مصر والتعهد بعدم المساس بهما وبكل أنواع الفن، بينما نشهد “اعتقالات” فكرية من نوع جديد تبدأ من ملابس الممثلات في الأفلام والمسلسلات (لا في الشوارع!) وتصل إلى المحاسبة على الماضي، ومن المؤكد أنها لن توفر لاحقاً مضمون الأعمال وما تعرضه الشاشات خصوصاً في رمضان؟

وإذا تحكمت “مجموعة من الطلبة” في قرارات عميد الكلية الآن وفي ظل الحرية والثورة ومع بداية بزوغ فجر الديمقراطية، فكيف سيكون الحال غداً بعد أن تحكم “الأكثرية” وتستكين الثورة؟