2012/07/04

"الفرنجي" بقي "برنجي"..
"الفرنجي" بقي "برنجي"..

شكري الريان


الظاهر أن "اكتشاف مصر" عملية مستمرة على مدار العصور. فمن أيام هيرودوتوس إلى حقبة الـ CNN وأخواتها، ما انفكت مصر تكون موضوعا للاكتشاف المستمر. وبعيدا عن دواعي هذا الفضول المثابر عبر العصور، كمثابرة أهل "بر مصر" في صناعة التاريخ، فإن ما يعنينا هنا هو أن مصدر الفضول يأتي دائما من خارج المنطقة، وأننا بدورنا لا ننفك عن إعادة اكتشاف منطقتنا بعيون هؤلاء الفضوليين الغريبة (أهي زرقاء دائما؟!!)..


المحطة الأخيرة في صناعة هذا التاريخ جائت من "ميدان التحرير"، الذي نجح وبامتياز في أن يكون نقطة تقاطع للعديد من الخطوط، ربما أهمها ذاك المتعلق باختبار قدرة وسائل الاتصال الحديثة على أحداث فارق فعلي على الأرض بعد أن كانت مقتصرة في حقبة ما "قبل الميدان" على الفضاء وحده. ذاك الفضاء الذي بقي حتى وقت قريب يسمى "افتراضيا"! ولا أدري ماذا يمكن أن يطلق عليه بعد ما جرى ويجري من أحداث وفي منطقتنا بالذات. وأرجح على الأغلب أننا سنبقى ننتظر التسمية من "الخارج" بالرغم من أن الفعل الداعي لهذا التغيير على الأرض صنع في منطقتنا.


وبالعودة إلى الفضول الذي بدأنا به حديثنا، فإن أكثر ما يدهش في فضول هؤلاء "الفرنجة" هو طريقة التغطية الإعلامية لأحداث "الميدان"، والتي بالطبع لم تقتصر على الإعلام المرئي فحسب، بل طاولته إلى كامل وسائل الإعلام المعروفة بما فيها تلك التي باتت "عتيقة الطراز" وأقصد الصحافة المكتوبة.


فما حدث فعليا، ولكل من تابع وسائل الإعلام الغربية المختلفة وطريقة تغطيتها للحدث، أن هناك نوع من "روح" جديدة دبت، ليس في أوصال الماكينات الضخمة التي تعمل هناك على مدار الساعة وتطحن كل ما يقف في طريقها معيدة إنتاجه على شاكلة قصة يجب أن تبقى جذابة وإلا..، بل إن تلك الروح "شعشت" في طريقة التغطية وفي الكلمات والجمل التي استخدمت في هذه التغطية، لدرجة بتنا معها نتعامل فعليا مع "بشر" باتوا يشبهوننا كما لم يفعلوا من قبل.


وهؤلاء "البشر" كانوا "نجوم" الإعلام الغربي بقده وقديده الذين نزلوا على الأرض وتحدثوا مع الجميع من وسط "الميدان" ونقلوا لمشاهديهم ومستمعيهم وقرائهم قصصا مختلفة عن ملامح تحرك أدهش، وأعتقده سيستمر في إدهاش، الجميع بما فيهم أولئك الذين عقدت الدهشة ألسنتهم وأقلامهم فبقوا يتأملون الحدث من بعيد، فكان كل ما قدموه باردا بفعل تلك المسافة الفاصلة التي بقوا مصرين عليها لسبب لا يعلمه أحد، إلا، ربما، أعتى أجهزة الاستخبارات في منطقتنا.. وأقصد بـ "أولئك" بالطبع "نجوم" إعلامنا العربي... الكبار دائما وأبدا..


على الجانب المرئي، بقي أولئك "النجوم" متمترسين في أستوديوهاتهم، في عواصم ومدن بعيدة عن مكان الحدث، واكتفوا بإطلالاتهم المعتادة الملمعة والمملة في آن من كثرة التكرار. ما خلا إستضافة بضعة "مفكرين عرب" كنوع من التغيير الذي بقي حبيس الأستوديو، وبضعة مكالمات مع "شهود عيان" لا تشبع جوع مشاهد يفترض أنه يتابع إعلاما بات مهنيا ومحترفا ومنذ زمن، فإن إعلامنا العربي اكتفى ومن الناحية المهنية بما ينقله إليهم "مراسلين" بقوا في الميدان بحكم الوظيفة. وهؤلاء المراسلين مع كامل الاحترام والتقدير لجهودهم، إلا أنه ما كان من الممكن لهم أن ينقلوا الصورة لجمهور متعطش وقلق وساهر على مدار الساعة، بالطريقة التي يفترض أن يقوم بنقلها "نجم" مدرب وذو خبرة وجمهور أيضا بحكم الضوء الذي سلط عليه. فإن لم يكن هذا "النجم" قد صنع من أجل هكذا لحظات، فمن أجل ماذا صنع؟!!..


قد يقول أحدهم أن هناك خطر أكيد كان سيحيط بأولئك الإعلاميين "النجوم" فيما لو نزلوا إلى الأرض قليلا. وأن التشويش الذي جرى، ويجري، على أكثر من محطة فضائية عربية، ما هو إلا دليل يؤكد بوضوح على حجم الاستهداف الذي عانى منه الإعلام العربي من قبل الأنظمة العربية وأجهزتها. بل إن الأمر تطور إلى استهداف بالقتل (الشهيد علي حسن الجابر مصور الجزيرة في ليبيا). وهذا كله صحيح دون أدنى ريب. ولكن أيضا هناك شيء آخر صحيح وهو أن "نجوم" الإعلام الغربي لم يكونوا مستهدفين أقل من زملائهم العرب (هالة غوراني مراسة السي إن إن مثال واحد وليس وحيد على ذلك). بل إن بعضا من أولئك كانوا عربا ولكن عملوا لمحطات غربية ناطقة بالعربية. أكرم خزام مراسل الحرة في القاهرة واحد من أولئك. وللذين يريدون معرفة ما أقصده بكلمة "نجم" بالضبط ما عليهم إلا العودة بالذاكرة قليلا ليتذكروا طبيعة التقارير التي كان يرسلها خزام إلى محطته بالمقارنة مع "مراسلين" آخرين لمحطات عربية أخرى. وأكرر مع كامل الاحترام والتقدير لجهود أولئك المراسلين. إلا أن الصراحة تفرض علينا أن نقول بأن الفارق كان واضحا في كل شيء، ولم يقتصر على مضمون التقارير ومستواها فحسب بل طاولها إلى طريقة التقديم أيضا. ولكم أن تضعوا اسم "أكرم خزام" في مقابل أي اسم لأي "مراسل ميداني" لأية محطة عربية أخرى.. واحكموا...


أما على الجانب المقروء، فالمشكلة كانت أكبر وبما لا يقاس. يقولون بأن الصحافة نوعين، خبر ورأي. وهناك نوعين من الصحفيين، المراسل أو reporter، والمعلق أو commentator. الأول مهمته أن يكتب تقارير ذات طابع ميداني، والثاني يكتب عمودا أسبوعيا أو نصف أسبوعي أو حتى يومي، عن أشياء كثيرة ليس بالضرورة أن تكون ميدانية الطابع حصرا. والعادة أن لكلا النوعين من الصحفيين "نجومهم". ولكن في كلتا الحالتين فإن الصحفي أكان مراسلا أم معلقا يبقى في النهاية صحفيا أي عليه أن يكتب مباشرة من قلب الحدث، خصوصا عندما يكون هذا الحدث مشتعلا. وحتى تكتسب كتابته إن كانت تقريرا أم رأيا حدا أدنى من المصداقية في عيون قرائه، فهو في كل الأحوال مطالب بالتواجد على الأرض بين الناس وصناع الحدث محاولا أن يستقصي ما يمكنه من أبعاد هذا الحدث. وما حدث مع "نجوم" الصحافة الغربية أنهم أيضا بقدهم وقديدهم نزلوا إلى الميدان، بل إن أحدهم اعتلى دبابة للجيش المصري هناك مع من اعتلاها من مواطنين مصريين (روبرت فسك مراسل الإندبندنت). بينما بقي "نجوم" صحافتنا قابعين في مكاتبهم ومقاهيهم البعيدة مكتفين ببعض "التوجيهات" بشأن ما يمكن أن تكون عليه "مآلات" تلك الثورات التي بقيت في أذهانهم وكتابتهم تدور في أمكنة بعيدة.


أهو الفضول وحده من دفع أولئك "الفرنجة" للمخاطرة حتى بسلامتهم الشخصية من أجل التواجد ونقل الصورة كاملة لجمهورهم؟ أم أن الموضوع أعمق غورا من مجرد فضول لا يمكنه أن يوجد أصلا في بيئة أطبقت على "قاطنيها" فثاروا عليها، بادئين بالمؤسسات السياسية، ولكنهم لن يلبثوا أن يمتدوا ليثوروا على كامل ما أنتجته تلك البيئة من مؤسسات؟.


هو رهان مفتوح للآن.. ولكن حتى ذلك الحين فإنه من الواجب القول بأن المؤسسات الإعلامية العربية التي تعمل في سياق، اجتماعي سياسي إقتصادي، أكبر منها بكثير، لا يمكنها أن تتجاوز هذا السياق دفعة واحدة لتكون "صوتا للذين لا صوت لهم". وحتى ذلك الحين فإن "الفرنجي" أثبت وفي اختبار أخير أنه "برنجي".. فهل يبقى كذلك دائما؟!!!!..