2013/05/29

الفساد ملك الموسم الدرامي...دراما كشف المستور وفضح المسكوت عنه في واقعنا المعيش
الفساد ملك الموسم الدرامي...دراما كشف المستور وفضح المسكوت عنه في واقعنا المعيش


أوس داوود يعقوب – الوطن السورية


لا نكشف سراً حين نقول إن الرقابة السورية لم تتح لسنوات طوال الفرصة لصنّاع الدراما المحلية بمختلف مجالاتها، لكي يقدّموا أعمالاً تكشف المستور وتفضح المسكوت عنه في واقعنا المعيش بطريقة حقيقية تسلط الضوء على ما يعانيه المواطن السوري من فساد إنساني وسياسي وديني واجتماعي واقتصادي.. وهو ما يعانيه المواطن العربي عامة في أغلب المجتمعات العربية، مع فوارق في المسببات والدرجات والمؤثرات الخارجية.

وإذا كانت الدراما السورية اعتادت التطرق إلى المواضيع الاجتماعيّة في الماضي، فإنّ العين هذه السنة اتجهت نحو الأعمال التي سلطت الأضواء على مكامن الفساد في المجتمع السوري. وركزت في مضامينها على أسئلة جوهرية لطالما تجاهلتها الدراما أو التفّت حولها، من دون أن تدخل في عمقها وتقاربها بالجرأة المطلوبة: الرشوة في الدوائر الرسمية والفقر والجشع والفساد الموجود في البيت، والمدرسة، والشارع، وآفات كثيرة تعصف بمجتمعاتنا المعاصرة.

ورغم الاتفاق في الوسط الإنتاجي أو الفني وكذلك النقدي على طبيعة المادة التي يمكن أن تجتذب وتثير تحفظ قطاعات واسعة من الجمهور، ومن ثم تشكل مادة مرشحة للتناول النقدي والإعلامي، سواء تعلق الأمر بمحظورات أم قضايا دينية أو سياسية أو اجتماعية وغيرها، إلا أن المتابع يرصد أنه لا يكاد يمر شهر رمضان على شاشات الفضائيات العربية دون أن نشهد أعمالاً درامية سورية عدة من هذا النوع.

هذا الموسم رفعت الأزمة بمجمل معطياتها حدود المسموح رقابياً، وباتت حكايات الفساد وانتقاد الحكومة ومشاكسة المؤسسات الأمنية وفضح بعض الممارسات فيها بجرأة مقاربتها، باتت اليوم حديث الشارع العادي، بعد أن حاول عدد من الكتّاب ملامسة هموم وقضايا جديدة لم يسبق التطرق إليها، حيث سعى البعض في كتاباته إلى تقصي خبايا الشرائح الاجتماعية وتداخلاتها لدرجة باتت فيها المسلسلات تقترب من صيغة تحقيقات صحفية استقصائية تجمع في تفاصيلها بين ما هو درامي وتسجيلي وروائي. بكتابة حرفية قائمة على فهم نقدي عميق لمكونات الواقع المحلي، وعلى رسم الشخصية وإضاءة المساحات المظللة في الراهن الاجتماعي من خلال الإطلالة على اليومي المعيش، عبر بناء واع لشخصيات الأعمال التي تناولت قضايا الفساد بمعالجة درامية نافذة إلى العمق بمحاكاة صادقة لواقع وهموم المواطن السوري، وهو ما اعتبره النقاد عودة إلى «دراما الوعي واحترام عقل المشاهد وكشف المسكوت عنه»، بعدما كان هذا المحتوى مغيباً طوال عقود من الزمن، وبعد معاناة صنّاع الدراما المحلية خلال السنوات العشرين الماضية، في خضم مواجهات مفتوحة ومعارك ضارية مع الجهات الرقابية المختصة.

ولقد استطاعت معظم أعمال الدراما الاجتماعية التي تطرقت لفضح ونقد الممارسات الشاذة في الواقع المعيش أن تموه المكان والشخصيات لمصلحة الفكرة التي تناقشها وهذا ليس جديداً على الدراما السورية إذ إنها بدأته منذ بواكير أعمالها في مسلسل «ولاد بلدي» للمخرج القدير علاء الدين كوكش مجيرةً الواقع والهم العام وقضايا الناس لمصلحة الحكاية التلفزيونية.

أبرز هذه الأعمال التي سلطت الأضواء على قضايا الفساد الموسم الفائت مسلسلي «الولادة من الخاصرة 2- ساعات الجمر»، و«المفتاح» للكاتب خالد خليفة، عن فكرة للفنان باسم ياخور، ومن إخراج هشام شربتجي، ومن انتالج المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي.

لكن دون أن ننسى سلسلة الكوميديا الاجتماعية الناقدة «بقعة ضوء»، التي كانت سباقة في تجاوز الخطوط الحمر، وسعت إلى تحطيم التابوهات الفاسدة، منتقدة في الكثير من اللوحات التصرفات التعسفية وسوء استخدام السلطة وكبت الحريات من جهات الأمن، ومحاربة الفساد بأشكاله، حتى اعتُبرت «السلسلة» مقياساً للجرأة، عبر تجاوز السقف المسموح به رقابياً. انطلاقاً من أن الدراما يجب أن تكون جزءاً من واقعنا ومعبرة عن همومنا، وليست ضد الناس. ولتقديم مادة الدرامية نابعة من هم إنساني وواقعي، ترصد الكثير من تفاصيل الواقع الذي تعيشه سورية.

في مواجهة مقص الرقيب والوصايات الأمنية والدينية والفكرية

تاريخ الدراما السورية مع الرقابة ومقص الرقيب والجهات الرسمية التي تناولتها بعض الأعمال بالنقد طويل وفصوله لا تنتهي، فعلى سبيل الذكر لا الحصر واجه صنّاع سلسلة «بقعة ضوء» قبل أربعة أعوام، مشكلة مع (إدارة الأمن الجنائي) التي ثارت حفيظتها بعد تناول إحدى لوحات السلسلة عناصر الأمن الجنائي بطريقة اعتبرتها الإدارة المختصة ساخرة، فلوّحت برفع دعوى قضائية على مؤلف اللوحة ومخرج العمل ومنتجه.

وفي الموسم الدرامي 2010م شهد سجالاً أيضاً بين المخرج نجدة إسماعيل أنزور والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي حول مسلسل «ما ملكت أيمانكم»، على حين اعترضت إحدى الجهات الأمنية على ما جاء في مسلسل «لعنة الطين».

وفي موسم العام الماضي أثار مسلسل «سوق الورق» للكاتبة آراء الجرماني والمخرج أحمد إبراهيم أحمد، والذي تناول الفساد الإداري في الجامعات، جدلاً واسعاً في الأوساط الجامعية السورية. وقد أوضحت (الجرماني) في بيان أصدرته -آنذاك- إلى أن «هدف المسلسل الرئيس هو الإشارة إلى بعض المشكلات التي تحدث في المجتمع وبعض ألوان الفساد، وما يحدث في الجامعة جزء منها.. شاءت البنية الدرامية للعمل أن يتم التركيز في الحلقات الأولى على عالم الجامعة، أما في الحلقات الأخرى للمسلسل فسيتم التركيز على جوانب أخرى من أنواع الفساد المنتشرة في المجتمع، حيث يعالج عدداً كبيراً منها». ورغم ذلك تعرض المسلسل للتهديد بالملاحقة القضائية من جانب جامعة دمشق واتحاد الطلبة. علماً بأن العمل من إنتاج المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي التي تشرف عليها وزارة الإعلام السورية.

كما اعتبر مسلسل «فوق السقف» للمخرج سامر برقاوي ومجموعة من الكتّاب من أكبر مفاجآت الموسم م2011 على أكثر من مستوى، حيث تناول ما يجري في سورية مؤخراً على نحوٍ غير مسبوق من الشفافية، إضافة إلى كونه من إنتاج المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي وهي جهة رسمية، وعُرض منه (15) حلقة على شاشة الفضائية السورية.

غير أن المسلسل توقف عرضه بشكلٍ مفاجئ لما قيل إنه أسباب تتعلق بجدولة البرامج على التلفزيون السوري، بعد أن حظي بتغطية إعلامية واسعة في الصحافة السورية والعربية أجمعت على جرأة العمل، ووصلت إلى حد القول إن مسلسل «فوق السقف» مزّق سقف الرقابة بصورةٍ نهائية بعد تناوله لكل المحظورات، وبحثه عن مساحات جديدة للحرية في الدراما السورية. وكان مخرج العمل سامر برقاوي قد سلّم كامل الحلقات المتفق عليها من مسلسل «فوق السقف»، وعددها (26) لمؤسسة الإنتاج التلفزيوني والإذاعي، أي إن (9) حلقات بقيت خارج العرض ولم يعرف السبب الحقيقي وراء إيقاف عرضها!.

السيناريست سامر رضوان العلامة الفارقة

لئن كان مسلسل «لعنة الطين» الذي تطرق للفساد السياسي وأثره السلبي في حياتنا، قد شرع بوابة الجرأة على مصراعيها، و«الولادة من الخاصرة1» تخطاه، فإن عمل الكاتب والسيناريست سامر رضوان الأخير «الولادة من الخاصرة 2 - ساعات الجمر» الذي عُرض في الموسم الدرامي الفائت (من انتاج شركة كلاكيت - سورية)، وكان صادماً في طرحه، لهو بحق من الأعمال الدرامية السورية المميزة بجرأة ذات جرعة زائدة رفعت السقف واخترقت كثيراً من الخطوط الحمراء وكسرت السائد والمألوف في درامانا، بتجلياتها ومستوياتها ورؤاها المتعدّدة، وسجلت اسم المبدع رضوان كعلامة فارقة في ما يمكن تسميته «دراما كشف المستور وفضح المسكوت عنه»، فهو في أعماله الثلاثة المذكورة آنفاً يرصد، ويطارد الحالات الشاذة التي يلفظها أبناء البلد الشرفاء، وفي مقترحه الحكائي نجد علاقة دائماً بالحلم، بأن تزول هذه الظواهر وتستأصل من جسد الشارع السوري.

وقد اعتبر (رضوان) أن الجزء الثاني من المسلسل يجسّد موقفه مما يجري في البلاد منذ بداية الأزمة «بالصوت والصورة». حيث كتب على جدار صفحته على الموقع الاجتماعي (فيسبوك) قائلاً: «سألني أصدقائي كثيراً عن سبب صمتي في الفترة الماضية والعصيبة التي تمر بها البلد بعد أن كنت مواظباً على تقديم وجهة نظر قد تخلو من صواب أو خطأ... لكن بعد تأمل ليس طويلاً آثرت أن يكون الموقف على شكل وثيقة دون استعراضات ثورية واصطفاف لا يحتاج إلى توضيح.... فكل موقف نضح بما يكفي في ذات صاحبه منذ البداية... وعندما صار الرأي يأكل الروح ويجعلها كريهة بنظر البعض وذابت الآذان... فضلت الحرف والصورة... «ساعات الجمر».. هو موقفي ووجهة نظري... وبحسبة بسيطة.. سيكون أكثر رسوخاً من مجرد تعليق متشنج أو مدروس على (الفيس بوك)».

«الولادة من الخاصرة».. عنوان يتفتح على دلالات متعددة، ويحمل بين ثناياه تكثيفاً دلالياً يدل بداية على حالة القسوة والعنف في الولادة من الخاصرة التي تعد علمياً من أصعب حالات الولادة. من هذه الرؤية انطلق (رضوان) والمخرجة رشا هشام شربتجي ليقدما الجزء الثاني من الولادة من الخاصرة، الذي يعري جوانب كثيرة من مظاهر الفساد السياسي والأمني والأخلاقي في مجتمعنا المحلي، ويصور صراع المال والسلطة. وفي هذا الجزء يوغل كاتب «ساعات الجمر»، في كسر الهوّة بين الواقع والشاشة، دون إفصاح السيناريو عن حلول ومنافذ بشكل صريح، بقدر ما يومئ إلى انسداد كبير في أفق المرحلة.

وهذا هو ما أكده (رضوان) بنفسه، من خلال إعلانه عن جزء ثالث للعمل، بعد النجاح الكبير الذي حققه الجزآن الأول والثاني، وحظي بأكبر نسبة مشاهدة لعمل درامي في الوطن العربي للموسم الفائت.

المفتاح.. «جرأة طرح مملوءة بالسموم»

يطرح العمل أشكالاً مختلفة من الفساد الاجتماعي والاقتصادي وعلاقتهما الوثيقة الصلة بالقانون مع التركيز على أساليب التكيف مع القوانين وليها من البعض لخدمة مآرب خاصة. طارحاً مجموعة أسئلة عن كيفية نشوء الفساد في المجتمع، ويحلل تراتبية هذا الفساد، الذي ينتج قوانينه الخاصة عبر تلاعبه بالثغر القانونية، ويحلّل طريقة تفكير المستفيدين التي تعتبر مصالحها هدفها وغايتها الأساسية. وتدخل في العمل على خط الصراع شخصيات مثيرة للجدل، مقتبسة مرجعياتها من الواقع المعاصر، ضمن معادلة إظهار الفرد كضحية لممارسات المجتمع، والمجتمع كضحية لسلوك أفراده.

وفقاً للكاتب خالد خليفة فإن العمل «ينطوي على جرأة كبيرة في الطرح لجميع أشكال الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإنساني ليثبت أن كل نوع من أنواع الفساد يؤدي للآخر ومن ثم يجب أن تكون المعالجة متكاملة كي نخلق بيئة نزيهة شريفة سمتها الأساسية هي الإنسانية كما يناقش العمل القلق الذي يحكم العلاقات الإنسانية وترابطها في ظل تطور العصر ومتغيراته».

كما يحسب لكاتب النص أنه لم يصور الفساد من الأعلى، أو من زاوية واحدة فقط، كما شاهدنا في عدد من المسلسلات السورية. بل انطلق من الأسفل، من إحدى بسطات تعقيب المعاملات في دمشق، ليصل بنا إلى مراتب الفساد العليا: وزراء ومسؤولين أمنيين وسياسيين. بين هاتين «المرتبتين»، رافقنا أبطال العمل في تطورهم، وفي تطور قصصهم الخاصة. وعلى الرغم من أن أغلب شخصيات المسلسل، الذي يمتد على مساحة زمنية تزيد على عشر سنوات، لم تتغير فيزيولوجياً طوال هذه المدة، إلا أنه يمكن إدراك اشتغال السيناريست على بناء أبطاله من الداخل.

ومن فضائل هذا العمل أنه أعاد المخرج هشام شربتجي إلى واجهة الأعمال الاجتماعية بعد أن قدّم في عام 2008م مسلسل «رياح الخماسين» الذي قوبل بانتقاداتٍ واسعة في ذلك الحين وصلت إلى حد منعه من العرض على التلفزيون السوري.

وقد وصف (شربتجي) النص بـ«المملوء بالسموم»، ويرصد العمل مجموعة من الخطوط الدرامية التي تتحدث عن قضايا اجتماعية نعيشها في حياتنا اليومية..

متناولاً ظواهر الفساد وانعكاساته على شرائح المجتمع السوري المختلفة، وكيف يسعى البعض إلى استغلال القوانين، وتسخيرها لمصلحته على حساب الآخرين دون أدنى اعتبار للهدف الأخلاقي والقيمي للقانون.

لذلك كله يمكن تصنيف المسلسل كواحد من أفضل الأعمال التي تناولت ظاهرة الفساد في السنوات الماضية، ويحسب له سعيه إلى الحفر في بنية المجتمع السوري زمنَ ما قبل الأزمة ومحرّماتها.