2012/07/04

النصّ أم الشخص في حضرة الغياب .. سجال وجدل مثيران
النصّ أم الشخص في حضرة الغياب .. سجال وجدل مثيران


أحمد علي هلال – البعث


على الرغم من زخم الإعلان عن العمل التلفزيوني الدرامي "في حضرة الغياب"، العمل الذي يقارب حياة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، ورحلته المديدة في الزمان والمكان، ومع تواتر حلقاته الأولى على أكثر من قناة عربية، من بينها "تلفزيون فلسطين"، فإن سجالاً مستأنفاً ربما فرضه استحقاق العرض، ما زال ينوس ما بين وقف العمل، والسعي لمتابعته حتى نهايته، سجال يفتح أفق تساؤلات إضافية حول السيرة الذاتية وتوظيفها درامياً، ومدى الاستفادة من الوثيقة ومعطى التاريخ الراهن والبعيد، فضلاً عن حساسّية تناول شخصيات ثقافية إشكالية، من بينها على الأقل الشاعر محمود درويش، الأمر الذي يعود بنا لجدل مماثل حول شخصية الشاعر الراحل نزار قباني، والفنانة الراحلة أسمهان، فيما يبدو أن تلك الأعمال قد حملت من التأويلات والتكّهنات الكثير دون أن يعني ذلك توقف مشروع الفنان فراس إبراهيم أو إقصاءه ممثلاً ومنتجاً لـ في "حضرة الغياب" مجسّداً لشخصية درويش، ومن الواضح أن المسلسل لا يتوسل التاريخ ولا يستظهر الوثائق، إلا بالقدر المعلّل درامياً، بمعنى آخر ليس ثمة سعي للتطابق مع شخصية لها خصوصيتها وفرادتها، بل ثمة إضاءة تتجاوز "الميثاق الأوتوبيوغرافي" لتطاول الأبعاد الإنسانية وتجلياتها، بما يقترب من سيرة إضافية تراجيدية لشعب حّي ارتبط مع –درويش- بوجدانه الجمعي والفردي وبذاكرته الجمعية، فكيف تخدش تلك "الأيقونة" إذا أعيد اكتشافها لتظلّ تحت الشمس. «في حضرة الغياب»، ليس عملاً وثائقياً لنذهب في تأويل الفاصلة، والجملة والسياق، وصورة درويش الكلّية تستدعي النظر إليها من الكثير من الزوايا المختلفة، وعليه يستحق درويش في لحظة استحضاره ألا يبقى حبيس الصمت، رهين الغياب، صحيح أن مفردات المسلسل تأخذنا لاشتقاق أسئلة ضرورية تقارب النصّ والشخص، واختبار دراميتهما على مستوى الرؤية الإخراجية، ونص  السيناريو الذي كتبه المبدع حسن م يوسف، لكن تجزيء النص دون رؤيته بوحدته السردية الكاملة، سيفضي بنا لتأويل ناقص، فإذا ما استبعدنا أفكاراً جاهزة ومسبقة، يمكن لنا مساءلة العمل بكثافته الدرامية، وليس انطباق مقولته على الواقع، الواقع الذي تطّير منه درويش ليفارقه.. إن سهولة إطلاق الأحكام، وتواتر الغضب الصريح، سوف تحتجز درويش-الإنسان- في تحديد نهائي، يشبه خوفه من الخلود، خوفه من أن يصل لمنطقة لا يجد فيها أفقاً للتطوير!.

هكذا يتّجه خطاب في حضرة الغياب، خارج نمذجة الشاعر، لإطلاقه في فضائه الإنساني بتأليف تلك المنمنمات الاجتماعية والإنسانية لتنتج المعنى، فلا تماثل أو انعكاس، أو كاميرا محايدة مع الوجوه الأخرى التي ما تنفّك تكوّن نسيج درويش الحياتي، كإرهاصات ضرورية لصيرورته كشاعر له لغته بامتياز.

ما هو كامن وراء حملات وشعارات ذات رصيد عاطفي، -على الأرجح- أنه يذهب لمشروعية السؤال الباحث عن المعادل الفني-الجمالي، لكنه سيقف على الشكل ويكتفي به، فالبحث عن محمود درويش، هو البحث في السياق والبنية، لطالما ارتأى العمل أن يبدأ بالحكاية، وتفصيلاتها الدرامية، على مستوى التقنية، وما يمكن أن يتيحه خطاب الصورة في أولياتها من تفسير ومحاكمة.. إن الانطلاق من الضرورات الدرامية سيشكّل إحدى أهم العتبات في مقاربة محايدة لبنية العمل الكلية، دون أن يشغلنا سؤال التطابق، والبحث عن فجوات النص أو الصورة، وتجسير  الهوّة بين الشاعر والممثل، ما يشغلنا بالتأكيد، حساسية النص وحساسية الرؤية التي تعيد إنشاء متخيّل-درويش- وهواجسه الوجودية، في إطار فني سيخضع في نهاية الأمر لدقة بناء الأحكام النقدية واستحقاق جدلها الذي سيثري العمل بالتقاطع معه أو مفارقته.

ومما لا شك فيه أن أعمال السيرة الذاتية هي الأكثر استدعاء للحوار، لا سيما في حضرة الغياب، وما زال درويش حاضراً بقوة - رغم مرور ثلاث سنوات على رحيله- الأمر الذي يفسّر على نحو ما حساسية تشخيصه، كأن يردّد على الدوام:

"أنا محمّل صفة تمثيلية أكثر مما يتحملها شاعر"، ولعله أشار إلى نصوصه المحمّلة بتأويلات مسبقة، ليكافح فنيّاً، ليفّك قراءة مسبقة ما.

فهل ينجو مسلسل "في حضرة الغياب" من القراءة المسبقة، لينتصر لجمالية محمود درويش الإنسان في المبتدأ؟!.

فالمغالاة في استبعاد –العمل-تشبه كثيراً المغالاة في الإعجاب المفرط، ما يعني تالياً أن تجسيد «مطلق شخصية»، هو نوع من مغامرة قد تكون محسوبة أو غير محسوبة، وأن مجاز العمل الدرامي سيكون أكثر قرباً من مجاز حياة محمود درويش، والحال أن تلك الضرورات الدرامية ستحكمنا بنسبيتها، فلا مطلق في عمل درامي مشروع في مقاربة العمق الدرويشي المفترض في الحكاية والذاكرة، وما يضيفه المتخّيل على النص المكتوب، النص الذي يُشاهد، سيفضي إلى تعدّد القراءات، ومنها معاينة الكثافة الرمزية لدرويش التي لا تعطّل ولا ينبغي لها أن تعطّل فعل المغامرة لدى الفنان فراس إبراهيم، المغامرة التي تمنح طقس المشاهدة بعض العلامات..ربما يرى آخرون أننا نحتاج تلك المغامرة لكي ننجو من التطابق مع الحكاية الأساسية، هو رهان على استدراج كثافة درويش الدرامية، لنص تلفزيوني يغوص في الملتبس والشيّق والمثير، لينتج معنى، خارج سطوة الاسم بالمعنى الإيجابي.