2015/11/21

باب منزل فيروز
باب منزل فيروز

السفير - فاتن حموي

على بوابة بيتها، أول حرف من اسمها باللغة الأجنبية F. في كل مرة أمرّ بالقرب من المكان، لا أصوات تعلو. يبدو أن سيدة الغموض تهمس همساً، يبدو أنها لا تجلس بالقرب من الشباك المطل على الشارع العام، يبدو أنّها سعيدة بنأيها، يبدو أنّ الإنسان يمكنه أن يتغلغل في الروح وهو متجذّر في البعد عنك، يبدو أنّ عناق الصوت يكفي.

تدور بي الكرّات مرات ومرات متشبثة بأمل رؤية طيفها. مضت سنوات وأنا أمرّ قرب ذلك البيت في الرابية من دون أن أدري أنّه بيتها. وحين علمت بالأمر، بدأت أناديها لعلّها تفتح الستارة. أتقصّد المرور من هناك، لعلّي ألمحها. تخبرني صديقتي كاترين معوّض أنها جارة القمر، وأنها أيضاً تناديها بأعلى صوت كلّما مرت قرب منزلها. لطالما ركنّا السيارة هناك لأوقات لا يمكنني حسبانها، وجلسنا، بانتظار حركة. لكنّنا كنّا نعدل عن الفكرة، ونقرّر أن نحترم عزلتها ونمضي. وفي كلّ مرّة يعتريني فرح وغضب في آن... أفرح كطفلة وجدت عيدها، وأغضب متسائلة إن كانت عزلتها من حقها؟ أتساءل عمّن يزورها؟ تغضب نفسي لأنني أناديها ولا تسمع ندائي.

تسلبني الرؤية عن ملاحقة ستارة شباكها، سيارة حمراء مركونة في مرأب البيت. هناك أكثر من سيارة، ولكن السيارة الحمراء تستوقفني دوماً. أحيك قصصاً حولها، وأتساءل إن كانت تستخدمها للخروج ليلاً بعيداً من أعين الناس. مَن تزور؟ وماذا عن ابنها هلي؟ هل تغني له؟ هل يهدل صوتها في أرجاء البيت؟ بأي عين ترى ريما "الحندقّة" اليوم؟ ما هي نوعية أحاديثها؟ ما الذي يضحكها؟ وهل تطرب لصوتها؟ هل هي مدمنة قهوة؟ هل تقلّب ألبومات صورها؟ كيف هي علاقتها بالإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي؟ هل تنام باكراً؟ ما الذي يخيفها؟ متى بكت أخيراً؟ ما الذي يؤلمها؟ هل تحب المطبخ؟ هل تصادق الكتب؟ ما هي نوعية أحاديثها واهتماماتها اليومية؟ هل تكتب مذكراتها؟ هل اكتملت فصول الحكاية التي صوّرتها يوماً ريما؟ هل تشعر بالوحدة أم تؤنسها أغنياتها كما تؤنسني في وحدتي؟ هل تعلم بأنني لن أزعجها بأسئلة إن رأيتها؟ سأطرب لمجرّد الاستماع إلى أنفاسها، سأغمرها كأمي وحبيبي وطفلي وصديقي فقط لا غير، لا بل سأقبّل جبينها أيضاً. لا أعلم ماذا سأفعل إذا رأيتها وجهاً لوجه.

يؤلمني أن تكون ملهمة الكلمات والأحاسيس غارقة في الصمت. أجزم أحياناً أنّها عصفورة الشجن، وقيثارة الألم. "بيطلع ع بالي دق ع بابها وضل دق ليوعى كل البشر"... أعتبرها غارقة في الأنانية، لا تريد أن تتفاعل مع حب الملايين لها، لأنّها اعتادت العزلة أو أنّها صُنِعت لها. هذه الفكرة تواسيني، لأنّ الهاجسين برؤيتها كثر، وقد تفتّحت أعينهم على حبها منذ الطفولة. لكنّ حبّي لها أتى عميقاً ناضجاً، ولم يأتِ بالتواتر، فوالدتي لم تكن متيّمة إلا بالست أم كلثوم، تدندن أغنياتها في كل الأوقات، بينما كان صوت فيروز تميمتها الصباحية.

لم أعلّق يوماً صورةً لها إلا على حائط افتراضي، لكنني حفظت عن ظهر قلب معظم صورها، وتعني لي الحياة صورة دوّن عليها "لا قدرانة فل ولا قدرانة ابقى" من أغنية "يا ريت".

وتبقى هذه الكلمات "يا حبيبي هرب الليل بنا، ومشيناها دروب الحلم فلهونا عند واحات الهنا، وجلسنا في ظلال النغم، يا صفا دنيا من الورد لنا، وعشيات خفاف النسم نتهادى نتهادى، والغنى طائر في كل روض يغتني"، من أغنية "أذكريني" مهداة منّي إليها.