2012/07/04

 حصول "مطر أيلول"على جائزة أثار احتجاجاً وغضباً
حصول "مطر أيلول"على جائزة أثار احتجاجاً وغضباً

محمد منصور_القدس العربي

ليست مشكلة فيلم المخرج عبد اللطيف عبد الحميد الجديد (مطر أيلول) أن المخرج نجدت أنزور (عضو لجنة تحكيم الأفلام الطويلة في مهرجان دمشق الثامن عشر) لم يكن راضياً على الجائزة البرونزية التي منحت لهذا الفيلم، وبالتالي انسحب احتجاجاً على هذه المجاملة هو وزميلته في اللجنة المخرجة ساندرا نشأت.. فأي جائزة مهما بلغت من الأهمية والسمعة، لا يمكن أن تصنع من فيلم رديء، فيلماً يمكن أن يصمد في وجه الزمن وذاكرة الناس والجمهور والنقاد، وأي مهرجان مهما تمتع بمكانة، لا يستطيع أن يكون شفيعاً لفيلم لدى جمهوره، إن لم يكن هذا الفيلم قادراً على إقامة تلك العلاقة الحميمة مع الجمهور، فما بالكم إذن بجائزة في مهرجان دمشق السينمائي الذي هو إن طلع أو نزل 'مهرجان عربي' لا يجد مديره أي غضاضة في إهداء درع المهرجان إلى وزير الثقافة (راعي المهرجان نفسه)، في خطوة تزلف يمكن أن تشكل سابقة مدهشة لو حدثت في مهرجان غربي على هذا النحو!

إنتاج بميزانية متوسطة!

إذن فلندع المهرجان والجائزة وشبهة المجاملة وتشويش الانسحاب ولننظر إلى (مطر أيلول) كفيلم سوري من إنتاج محطة أوربت الخليجية (المنتج المنفذ لها هيثم حقي) يأتي في زمن يشح فيه الإنتاج السينمائي في سورية، فيصبح السينمائيون على استعداد لقبول أي مساهمة أو مصدر تمويل يمكن أن يشد أزرهم، كما فعل زملاؤهم في الدراما التلفزيونية من قبل.. شريطة ألا يشتط الفيلم في ميزانيته عن حدود المعقول، لأن الفيلم السوري حتى الآن يعاني من محدودية سوق توزيعه وعرضه، والحق أن المخرج عبد اللطيف عبد الحميد هو خير من يماشي هذه الرغبة الضمنية في تقديم إنتاج سينمائي بميزانية متوسطة. وفيلم (مطر أيلول) ينتمي إلى ما اعتاد المخرج عبد اللطيف عبد الحميد أن ينجزه من أفلام غير مكلفة فنياً، وقادرة على تقديم عمل يستحق أن يشاهد، بل ويثير التعاطف والاحترام، بسبب هذه اللغة الفنية المصنوعة، والتي لا تهبط بسوية الفيلم إلى درجة الابتذال الفني أو حتى الاستسهال، لكنها في الوقت نفسه لا ترقى به إلى مستويات مدهشة ومفاجئة، وخصوصاً بالنسبة للذين يعرفون أفلام عبد اللطيف عبد الحميد الثمانية التي سبقت هذا الفيلم.

الحب بالرؤية والمفردات نفسها!

وهكذا فمشكلة (مطر أيلول) الحقيقية هي أنه اجترار مكرور ومعاد لمشاهد وتفاصيل وحالات رومانسية، سبق أن قدمها عبد اللطيف في بعض أفلامه السابقة، وخصوصاً تلك التي استغرقت في معالجة موضوع الحب في إطاره المديني كـ(صعود المطر) و(نسيم الروح) وسواهما.. ففي (مطر أيلول) تتغير الحكاية والشخصيات، لكن المعالجة تبقى هي نفسها: حالات حب تسلب لب الحبيب وتجعله مشدوهاً ومسطولاً في حضرة الطرف الآخر الذي لا يفصح عن مشاعره بوضوح، فيبدو هذا الغموض جزءاً من كوميديا الحالة نفسها... ونموذجا آخر لحب متبادل، يتواصل في لقاءات ماطرة.. حيث يصبح المطر صورة لقلبين يغتسلان من انكساراتهما وأحزانهما بالمطر أو بشح المطر، كما هنا في هذا الفيلم، حيث يتحول هطول المطر، إلى لعبة اصطناعية من عاشق يريد إرضاء معشوقته!

وهكذا يشاهد المرء هذا الفيلم، وهو يخيل إليه أنه يعرف هذه الشخصيات، شاهد حالات شبيهة بتلك الحالات، وتركيبة من نفس المواد الأولية ولنفس الطاهي سبق أن قدمت على مائدة فيلم آخر.. صحيح أن الفيلم ينساب بعذوبة ويتدفق بتفاصيل سينمائية وبصرية شاعرية وموحية في كثير من أجزائه، لكن هذا التدفق لا يحمل عنصر الجدة، وهو لا يحمل عنصر الإضافة لتجربة سينمائية راكمت نماذجها المختلفة كي تصنع أسلوبية متصلة في إطار هذا الاختلاف أو التنوع.

صورة مدينة بعلاقات ريفية

أراد عبد اللطيف عبد الحميد من فيلم (مطر أيلول) تقديم تحية لمدينة دمشق التي عاش فيها لأكثر من ثلاثة عقود كما قال، وجعل مقدمة الفيلم تحية أخرى لذكرى أمير البزق وعلاقته بإذاعة دمشق، حيث روى فيها بالصوت والصورة قصة أمير البزق محمد عبد الكريم مع عزف لحن التنبيه لإذاعة دمشق منذ أربعينيات القرن العشرين ولسنوات طويلة، تحولت فيها هذه الإشارة اللحنية المميزة إلى جزء من ذاكرة الإذاعة وذكريات الأثير في فضاء المدينة، لكن مشكلة هذه التحية أنها بقيت خارج إطار النسيج الدرامي للفيلم، لقد بقيت بداية ونهاية رمزية لا علاقة لها بالفيلم، وحتى استلهام المخرج لتراث العظيم محمد عبد الكريم، من خلال التذكير بلحنه الخالد (رقة حسنك وجمالك) الذي قدمه للمطربة نجاح سلام في بدايتها، وجعله المخرج هنا عنواناً للتغني بدمشق، لا يأتي متآلفاً مع أجواء الفيلم، كما رأينا في (نسيم الروح) حين جعل من موسيقى بليغ حمدي وذكراه شخصية درامية حاضرة حتى في هواجس بطل الفيلم!

أما عائلة العشاق التي قدمها لنا المخرج في إطار الانتماء للمدينة التي يحيّها، باعتبارها عائلة شعبية دمشقية، فهي ليست إلا تصوراً ريفياً مفبركاً لتركيبة الأسرة الشعبية الهجينة التي قدمها المخرج.. صحيح أن الفيلم يسير عبر مسارين مزج فيهما المخرج الواقع بالخيال، والاستعارات المجازية بالمبالغات الكوميدية، لكن هذا لا ينبغي أن ينفي الهوية الواقعية لشخوص الفيلم، لأن هذه الهوية هي جزء من دلالات الفيلم نفسه، ولأن هؤلاء يفترض أنهم بشر بعواطفهم وأحلامهم ومتاعبهم وجنونهم وبانتمائهم لبيئة محددة تعبر عنهم. ولو تأملنا في نمط هذه البيئة، التي يمكن أن نقبل بها كمقترح فني بداية، سنجد مجموعة تناقضات صارخة ركبها المخرج قسراً، كي يقدم صورة كوميدية ما، وإيحاءات جمالية وشاعرية ما لا تنسجم في مكوناتها.. وإلا فكيف يمكن لأسرة ينام أحد أبنائها على الرصيف مع كوم البطيخ الصيفي، أن تسكن هذا البيت الدمشقي الفاخر ذا الطراز العريق في منطقة من أفخر المناطق في قلب دمشق التجاري... وما هذه العائلة التي تستقدم لفاية كي تنظف البيت، فيما أحد أبنائها يعمل في غسيل السيارات... وما هذه الأسرة التي تجمع في أعمار متقاربة ستة شبان أشقاء، اثنين منهما يعملان في مهن متواضعة، وأربعة يشكلون فرقة موسيقية تعمل في مطعم، من دون أن نعرف شيئاً عن ثقافة الأب الأرمل ولا ماذا يعمل، ولا كيف ربى أولاده فأنبت الموسيقي وبائع البطيخ؟ وتطال الأسئلة التي تتعلق بمحاولة فهم هذه التركيبة العجائبية للفيلم مسار بعض الشخصيات، إذ كيف يمكن أن يكون بائع البطيخ وغاسل السيارات أكثر جنوحاً في رومانسيتهما وعشقهما من أولئك الذين يعزفون الموسيقى ويحفظون أجمل وأرق الأغاني، بينما نراهم يحبون أربع شقيقات- خطيبات بطريقة استنساخية مضحكة فيها الكثير من الارتهان الأبله للقيود العائلية الصارمة.

طبعاً لا نقصد عبر تساؤلاتنا أن ننفي صفة الرومانسية أو حالة الاندفاع العاطفي عن أصحاب المهن المتواضعة أو (الدنيا) فقوة المشاعر تبقى حالات إنسانية لا قانون يحجبها أو يؤججها، لكن ما هو مستغرب حقاً ألا يكون لفن عظيم كالموسيقى أي أثر على سلوك شخصيات شابة تعيش حالة عشق، بينما نرى هذا الأثر بصور أكثر طزاجة وصدقاً وتأثيراً لدى أصحاب المهن الأخرى.. وهكذا يبدو الانغماس في الحب مجرد حل كوميدي لشخصيات ركبها المخرج على هواه، وانتقى مهنها الغريبة وفق رؤية مسبقة، وولف عيوبها المزاجية كي يرسم لوحة فيها الكثير من المفارقات والتناقضات التي تجعل الفيلم لا يعبر عن أي دلالة خارج موضوع الحب الذي أراد المخرج مقاربته بمفرداته الأثيرة، وباعتباره حالة استلاب أولاً ثم اندفاع حالم أو يائس حتى الموت!

جماليات الأداء الفني!

وهكذا ففيلم (مطر أيلول) الذي يكرر فيه مخرجه حيله العاطفية، وحلوله الكوميدية في معالجة الموضوع والشخصيات، هو عودة فيها الكثير من الإلحاح إلى موضوع الحب... وكنا نأمل أن تكون هذه العودة فيها بعض الإضافات الاجتماعية والدلالية التي يمكن أن تصمد في السياق التحليلي، فتصبح تعبيراً عن تحولات مدينة، أو أحلام طبقة اجتماعية في ظرف معين أو حتى فئة جديدة تحمل قيماً ما.. لكن الطريقة التي ولف فيها عبد اللطيف شخوصه، والرؤية الريفية التي ركب من خلالها نماذجه المدينية الخارجية في انتمائها، حرمت الفيلم من أية أبعاد أخرى.. فالشخصيات بلا نكهة ولا رائحة، سوى رائحة الحب وعذاباته.. والحدث يمكن أن يكون في دمشق وفي غيرها بلا أي تمايزات بيئية واجتماعية تذكر!

لكن هذه المآخذ حول تركيبة الفيلم وأسلوب معالجة موضوعه، لا تحول بالتأكيد دون رؤية أهم مزايا هذا الفيلم السينمائي ألا وهي حسن توزيع الأدوار واختيار الممثل المناسب للمكان المناسب، والنتائج الجيدة لتعاون المخرج مع ممثليه، سواء المخضرمين منهم (سمر سامي- وأيمن زيدان) أو مجموعة الشباب الذين كان أفضلهم حازم زيدان ويامن حجلي ولواء يازجي. لقد قدم أيمن زيدان في الفيلم واحداً من أهم أدواره في السنوات الأخيرة التي غرق فيها بالاستسهال التلفزيوني، وقدمت سمر سامي إطلالتها الشاعرية الآسرة بتوهجات عاطفية مفاجئة جعلتها تكسر مألوفية الحالة أو المشهد أحياناً... وإلى جانب التمثيل، ثمة سوية لافتة في عمل مديرة التصوير جود كوراني... تجعل من (مطر أيلول) عملاً أنيقاً على صعيد الشكل والأداء، وإن كانت تنقصه عمق

المعالجة وجدة الأسلوب