2012/07/04

حكاية مزمنة تعود لأكثر من قرن
حكاية مزمنة تعود لأكثر من قرن


سامر عمران – تشرين

في وقت صار فيه «المنتج الدرامي» وكأنه النتاج الثقافي السوري الأهم، لاسيما بالضخ المالي، والاستثمار من خلاله، فبدأ يتورم، على حساب بقية النتاج الإبداعي،

حتى اضمحل أغلبه، وأقصد بالمنتج الدرامي «الدراما التلفزيونية» وذلك أيضاً بما سوقته الفضائيات الباحثة بشراسة عن ملء مساحات البث الطويلة في شهر- الموسم- رمضان، حيث تكاد الشعوب العربية تتحول إلى كائنات «درامية – هضمية» وحيث يكون المناخ متوفراً لبث «رسائل» مشكوك في توظيفها، تحديداً تلك الدراما التي تنتج بالمال النفطي، لدرجة عندما تذكر سورية يتبادر إلى الذهن «شروال وحارة» فقط على ما يصف المخرج نجدة أنزور.!

هذا الاهتمام الأحادي الجانب، غيّب الكثير من النتاج الإبداعي على تنوعه، وأهميته، رغم توفر الأرضية ليكون في المصاف الأولى، وأقصد هنا «الأغنية السورية» التي كانت ذات حين من الدهر ملء العين، و..الأذن، واليوم هي في حالة يرثى لها، بعد أن صارت الدراما «الإبداع الوطني الأول» ولو قدم للأغنية ربع ماقدم للدراما التلفزيونية، لكان للغناء السوري شأن آخر.

حكاية مزمنة

الباحث الموسيقي صميم الشريف، يرصد في كتابه الضخم، الأقرب إلى الموسوعة والصادر عن الهيئة العامة للكتاب في وزارة الثقافة، مسيرة (الموسيقا في سورية – أعلام وتاريخ) منذ بدايات بعيدة إلى اليوم، إذ يبحث الشريف في حياة خمسة وثلاثين ملحناً، ومطرباً، ومطربة من الذين ولدوا بين عامي 1885و1930، هذا في القسم الأول من الكتاب، غير أن الباحث يذهب، ليصل إلى المعاصرين منهم اليوم، لاسيما مغنيات الأوبرا في الوقت الحالي، وبين هؤلاء، وبين الرواد، يتناول بالبحث حال الموسيقا السورية أواخر القرن التاسع عشر، متحدثاً عن قوالب الموسيقا الشرقية بشكل عام، والتوزيع الموسيقي والإيقاعات الراقصة، والكثير من الأبحاث الموسيقية الأخرى، إضافة لتناول حياة أعلام أكثر من مئة موسيقي ومطرب سوري.

منذ البداية يتحدث الشريف عن مسألة غاية في الأهمية، وهي «نزوح» المطرب السوري خارج وطنه، وهذا الأمر يعود إلى بداية القرن الماضي، و.. ربما قبل ذلك، وكان البعض من هؤلاء الذين أطلقوا مواهبهم خارج سورية، قد أجاد وأبدع، و.. لفت الانتباه إليه، أكثر من مطربي البلد المضيف نفسه، فيما عاد آخرون مكسوري الخاطر، في المقابل يفرد الباحث صفحات لمطربين آثروا البقاء في سورية، وتحملوا الصلف والعنت والجهل والتخلف، الذي وقف حائلاً دون تقدم مسيرة الفن السوري حتى منتصف القرن الماضي، هذه الفترة التي كانت لا تزال تعشش في تلافيفها ظلامية العهد العثماني وجاهليته.

في حين من الدهر

من يتذكر اليوم، إن الإذاعة السورية كانت في حين من الدهر تطلق الفنانين والمطربين من كل الأقطار العربية، و.. من يتذكر أن حلب الشهباء كانت و..ولحين من الدهر هي الأخرى كانت تعطي «الشهادة» للمغني لأن يكون مطرباً، وقد نال إعجاب السميعة..؟!

في ذات حوار مع المطرب عمر سرميني، يؤكد أن الأغنية السورية، وبأشكالها كافة موجودة بكل عناصرها: كلمات، موسيقا، و.. أداء، لكنها تحتاج فقط لمن يسلط الضوء عليها، فالإعلام إضافة لعدم وجود شركات إنتاج تتبنى الأغنية السورية مقصر هو الآخر تجاهها، ويزداد الأمر خطورة في خضم منافسة كبيرة حتى أن الأغنية السورية صارت اليوم في الصفوف الأخيرة، وهي التي تربعت في الصفوف الأولى لعقود، يتم الأمر من دون أن ينتبه له أحد، أو يزعجه ذلك، ومن هنا لا أحد يعرّف بنجوم الغناء في سورية المبعدين قسراً عن المنابر ولهذا السبب يذهب المقتدرون مالياً إلى القاهرة وبيروت والخليج، لأن الإعلام هناك وشركات الإنتاج تتيح لهم المساحة الأوسع للترويج، ولنتذكر أيضاً أن الملحن سهيل عرفة من لحّن لعشرات المطربات العربيات، أو غيره من الملحنين.. وأن الفنان الراحل نجيب السراج هو أول من سجل أغنية للتلفزيون السوري، فلماذا أمر الأغنية السورية غاب حد الخواء..؟!

حضور الأغنية، ولزمن طويل، بقي على الهامش, للدرجة التي تدفع بالموسيقي باسل داوود، الذي رافق فيروز وزياد الرحباني في حفلاتهم الغنائية لأن يقول بحسرة: الله يطعمنا موسيقا سورية مثل ما طعمنا دراما سورية، فغياب شركات الإنتاج والتي يسيطر عليها أموال الجوار غاب معها الصوت الغنائي، وحتى الموسيقي السوري رغم غنى وتنوع الخريطة الجيوموسيقية في سورية..

عشرات الفرق الموسيقية وعشرات الأصوات الغنائية تعلن عن نفسها كل مدة وتقدم عملاً أو عملين لكنها لا تكرر الثالث..!

حوامل الأغنية

منذ عام منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وإلى اليوم كان حامل الأغنية السورية هو الأغنية الشعبية، وتحديداً الأغنية الجبلية الساحلية، تلك الأغنية التي قوبلت في البداية بالكثير من السلبية، وأحياناً «السخرية» غير المبررة، كانت قد سدت فراغاً كبيراً في ساحة الغناء في سورية، بعد تقهقر مسيرة الفرق الموسيقية، وغياب الدعم للأصوات الجديرة بذلك، ومن ثم تلون صوتها بغير النكهة السورية، فيما الأغنية الحلبية تكلست على نمط لم تحيد عنه مئات السنين حتى كادت تفقد كل جمالياتها..!

ومع ذلك، ورغم توفر من يعود إلى أغاني الريف والضيعة، غير أن الأمر يحتاج إلى العمل المؤسساتي لضبط هذه «العشوائية» في هذا اللون من الغناء الذي كان الحامل للأغنية السورية لأكثر من عقدين، لاسيما لجهة الألحان، التي تكاد تكون إيقاعاً واحداً، مهما زعموا أنهم يطلقون أغاني وألبومات جديدة، الأمر الذي أوقعها بعدم التلوين.. أصوات كانت قد كان مهدت لها شخصيات رائدة في الماضي، كفؤاد غازي، وغيره من مطربي الضيعة.

الهوية السورية

وبالعودة لكتاب صميم الشريف، فيرى الموسيقا في سورية، أنها تقوم على فرعين، يتفرع عنهما ما اصطلح على تسميته قوالب التأليف الغنائي والموسيقي، الأول هو الفن الغنائي وينحصر التأليف فيه، في القوالب الفنية التي أبدعها العرب كالقصيدة، والأغنية الدينية، والموشح، والغناء بكلمة يا ليل، والأغنية الشعبية، و.. غيرها، أما الفن الحديث الذي دخل على الغناء منذ ثلاثينيات القرن الماضي فتندرج فيه القصيدة الغنائية، والأغنية الدارجة، والأغنية الشعبية المطورة، وغير ذلك، فيما لا تزال حلب حتى اليوم سيدة الموشحات منذ انتقل إليها هذا الفن من غرناطة الأندلس، وهنا يفرد الباحث صفحات للرواد الذين تحرروا من التركة التركية الموسيقية العثمانية، كمصطفى الصواف، وأحمد الأبري، وشفيق  شبيب، والشيخ عليي الرويش، والمبدع في رقص السماح عمر البطش، وغيرهم، ليأتي بعد ذلك جيل ورثة الرواد، الذين غنوا في إذاعة دمشق الفرنسية، ومن هؤلاء رفيق شكري، مصطفى هلال، نجيب السراج، وهذه المرحلة لم تكن ذكورية صرفة، إذ شهدت ساحة الغناء في سورية، وكان المجتمع، قد تخفف بعض الشيء من تزمته، فظهرت كل من ماري جبران، زكية حمدان، سلوى مدحة، و.. نهاوند، وماري جبران والأخيرة كانت سيدة مطربات بلاد الشام، بصوتها القوي – سوبرانو- الذي اتصف بالخصائص الجمالية، وجعلها تتربع على عرش مطربات عصرها، وبعد قليل ستظهر فايزة أحمد، التي ستجذب بصوتها الدافئ الفتي انتباه الموسيقيين والملحنين إليها، لتغدو المطربة الأوفر حظاً بين المطربات المتنفذات في الإذاعة السورية، بصوتها الذي يمتاز بالرقة والقوة معاً، وبالدفء إلى جانب الجزالة، وتستطيع أن تؤدي المطلوب منها بدقة متناهية، ورغم أن الكثير من مبدعي الجيلين السابقين، تأثروا بدرجات متفاوتة بالمدرسة المصرية، غير أن الفنان رفيق شكري هو الوحيد تقريباً، لم يتأثر بها، وهو المولود بحي الميدان عام 1923، ويعود إليه الفضل في أنه نجح إلى حد بعيد في إعطاء الأغنية المحلية الهوية السورية لحناً وأداء، وطبعها من خلال قوالبها المعروفة بطابع البيئة السورية، وبعد ذلك سيأتي المجددون في الأغنية السورية، كمحمود عجان، ومحمد محسن، نجيب السراج، وعبد الفتاح سكر، الذين صنعوا الأغنية السورية منذ الأربعينيات من القرن العشرين.

مشهد واسع ومتنوع

وفي نظرة بانورامية على مشهد الغناء والموسيقا في سورية منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى مطالع القرن الواحد والعشرين، يركز الشريف على ما يلي: اهتم الرواد بالتراث، وكتبوا فيه أجمل الأغاني والألحان، غير أنهم حصروا عطاءهم بالدرجة الأولى بالموشح والدور، دون أن يقدموا جديداً، فيما ورثة الرواد، فقد بحثوا في المدرسة المصرية، التي حافظت على التراث، واستحدثت أنواعاً جديدة، وقبست من الغرب بعض فنونه، ومن ثم ليدخل الباحث إلى شيء من الموسيقا السورية الصرفة، فقد عُثر في تل الحريري على نتف وقصائد غنائية، هي أقدم ما هو معروف في التراث الثقافي الغنائي، كما ظهرت في أوغاريت مدونة حسب سلم فيثاغورث، ولكنها مدونة قبله بـ1200 سنة، من هذا الإرث القصي والموغل في القدامة، ستشهد سورية حراكاً موسيقياً، يمشي مصارعاً بلا هوادة إرثاً جاهلياً، فرضه استعمار عثماني شديد التخلف، والذي لم يتخلص منه هذا الحراك، إلا بعد أن ينقضي أكثر من نصف القرن العشرين، فيظهر على الساحة، صباح فخري، سهيل عرفة، صفوان بهلوان، وآخرون الذين على أكتافهم انتشرت الأغنية السورية حتى خارج حدود سورية.

وفي فصلٍ لافت يتحدث الشريف عن المطربات السوريات، اللاتي شغلن الحياة الفنية في دمشق منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى اليوم، وهن كثيرات، منهن من سقطن على الدرب لافتقار مواهبهن على الاستمرار، ومنهن من تجاوزن بأدائهن إلى سائر الأقطار العربية، وصولاً إلى مغنيات الأوبرا مثل: أراكس تشكجيان، لبانة قنطار، سوزان حداد، رشا رزق، نعمى عمران، وتالار دكرمنجيان، وهنا إذا كانت ساحة الموسيقا السورية، قد تخلصت من تركة الظلامية العثمانية، نهائياً، رغم موجات الوهابية القادمة من غبار الجزيرة العربية، غير أن الخطر الأشد كان في هذا التجاهل لهذه البنى الموسيقية السورية، لمصلحة جنس نطلق عليه «إبداعاً» تجاوزاً، وذلك لأن ثمة التباساً وشكاً في هذه الثقافة التي يقدمها، وأقصد بذلك الدراما التلفزيونية، وإذا كنا لا نريد أن يخف الدعم عن الدراما، غير أن ثمة صنوفاً من الثقافة، هي أجدى، أو على الأقل جديرة باهتمامٍ مماثل.