2012/07/04

«خيوط في الهواء» تحتاج مَن ينسجها بمتانة
«خيوط في الهواء» تحتاج مَن ينسجها بمتانة


عبده وازن – دار الحياة

إنها من المرّات النادرة في الدراما التلفزيونية اللبنانية تكون «المحكمة المكان الرئيس الذي تلتقي فيه شخصيات مسلسل وتدور من حوله الأحداث وكأن «المحكمة» هي الإطار والمرجع في آن واحد. وكان لا بدّ للجيل التلفزيوني القديم أن يتذكر انطلاقاً من هذا المسلسل «خيوط في الهواء» (أل. بي. سي) البرنامج الذي كان يبثه «تلفزيون لبنان» في مطلع الستينات بعنوان «حكمت المحكمة» الذي كان يعدّ حلقاته الكاتب والصحافي الراحل فاضل سعيد عقل ويخرجه الياس متّى ثم إبراهيم خوري. لا تمكن المقارنة بين البرنامج العريق الذي كان له وقعه وصداه حينذاك والمسلسل الجديد، فالكاتب طوني شمعون والمخرج إيلي معلوف لم يشاهدا أصلاً هذا البرنامج، مثل كلّ الأجيال الجديدة، ثمّ إن «حكمت المحكمة» - كما قرأت عنه - كان يتناول في كلّ حلقة قضية ويعالجها، بينما المسلسل الجديد عمل دراميّ قائم على حبكة بوليسية.

فكرة «خيوط في الهواء» جميلة إذاً ومثــيرة، فالجميع بين العقدة البوليسية والتحقيق الذي تولاّه هنا المحامون أكثر مما تولّــته الشرطة بدا ذكياً ومتيناً، وقد طعّم بحكايات حب أساسية وجانبية. فالقتيل (بيتر سمعان) كان «زير» نساء كما يقال وانتقل من امرأة إلى أخرى، واعداً وحانثاً بوعده، معتمداً حيلاً عشقية معروفة. لكنّه لم يرتق إلى مرتبة «الدونجوانية» التي تفترض عمقاً مسلكياً وثقافياً، فظلت شخصية سطحية، مرتبطة فقط بالمغامرات التي خاضها وأودت بحياته قتلاً.

أما القاتل (طارق سويد) الذي يُكتشف أخيراً بعد سلسلة من الاتهامات وجّهت إلى أشخاص آخرين، فمرّ سريعاً ولم يركّز الكاتب والمخرج كثيراً على الحوافز النفسية التي دفعته إلى قتل عشيق زوجته انتقاماً لنفسه ولعائلته التي تفتتت بعد طلاقه منها جراء فعل الخيانة.

والغريب أن هذا الزوج المنتقم والغيور كان سافر إلى إحدى دول الخليج ليعمل هناك وهو على علم تام بأنّ زوجته تعمل عارضة أزياء في غيابه، بل على رضا، مع أن هذا العمل لا يمكن أن يرضي الأزواج الغيارى على نسائهم. كان من المفترض التركيز على شخصية القاتل وعلى الصراع الذي عاشه فلا يطلّ فجأة ويغيب من ثمّ.

الشخصية الأعــمق في المسلسل هي شخصية الضرير (مجدي مشموشي) الذي عاش صراعاً داخلياً على غرار الشخصيات المأسوية وظل شبه صامــت، منكــفئاً عــلى نفسه، مجروحاً ومكسوراً، بعدما علم بخيانة زوجته له.

وعندما يقع في شرك الجريمة ويتهم بالقتل يقبل التهمة والعقاب لينقذ زوجته التي ظن أنها هي التي ارتكبت الجريمة، وهي براء، كما يتضح في الختام. لكنّ الاتهامات تنسحب خلال المسلسل على أكثر من شخص: صهر الضرير (طارق تميم) الطامع بالمال، العاشق الخائب الطامع بالزوجة التي كان يحبها وترفضه، خطيبة القتيل (تينا جرّوس)، عشيقته الصحافية (نيكول طعمة) وسواهم... وفي الجهة الأخرى يبرز محامي المتّهم (فادي إبراهيم) ومحامية أهل القتيل (نهلا داود)، وهما يملكان أيضاً قصّتهما ويعيشان صراعهما الشخصي من خلال الصراع القانوني داخل المحكمة. فهما زوجان سابقان وقد انفصلا لأسباب عدّة، ذكورية وأنثوية و«أمومية»... فالزوجة التي كانت تلميذة معجبة بأستاذها لم تحتمل نرجسيته بعد زواجه منها، أما هو فشاءها أن تكون زوجة وأماً وربة أسرة فقط، أي امرأة بلا طموح ولا مهنة... والطريف أنهما كان يتبادلان نظرات التحدّي في المحكمة وكأن القضية المولجان بها هي شخصية وحافز على التنافس ولو قانونياً. وكان عليه أن ينتصر (يا للذكورية) في المحكمة كما في الحياة، فتعود إليه بعدما ازدادت إعجاباً بذكائه وقدراته الفكرية. لكنّه يتخلّى في لحظة العودة تلك عن نرجسيّته مظهراً وجه الزوج والأب الكامن في أعماقه.

لم تخل المحكمة حتماً من القاضي (ميشال تابت) ومعاونيه، وقد جلسوا إلى منابرهم، يستمعون ويتدخلون قليلاً. وبدا دور ميشال تابت مقصوراً على بضع جمل يلفظها برتابة، ويكرّرها بين جلسة وأخرى. وكان في الإمكان أن يسمح له، كقاض، في التدخل وإبداء آراء وفي التحليل السريع، فلا يطلّ مثل هذه الإطلالة العادية جداً.

وإن وقع المسلسل في الإطالة و«المط» والتكرار وهو كان يحتاج إلى الاختصار والضبط، فالمشكلة هذه تقع على عاتق المخرج الذي لم يدع الكاميرا تلعب لعبتها داخل صالة المحكمة الجاهزة والمملّة. كان في إمكان الكــاميــرا أن تدور على الوجوه وترسّخ جواً درامياً وجمالياً فلا تقع المشاهد في السطحية أو التسطيح البصري.

وكم بدت رتيبة ومضحكة النظرات التي كان يتبادلها الشهود داخل القاعة كلما جــرى الكلام عن أحدهم. أما الممثــلون فبعضهم نجح كثيراً ومنهم مجـــدي مــشموشي في دوره البديع الذي بناه بصمت وعمق وأداه أداء داخلياً تعبيرياً وكـــذلك فادي إبراهيم ونهلا داود وبيـــتر سمعان ونقولا دانيال (ذو الإطلالة المميزة دوماً) وطارق تميم ووداد جبور... وكم بدا حضور الممثلة جيني إسبر متصنّعاً وهزيلاً وقد فرضت كنجمة بحسب «الجنريك».

مرّة أخرى يضيع المخرج إيلي معلوف، الآتي من الإنتاج، فرصة مهمة أتاحها له الكاتب طوني شمعون، فلا يذهب في الإخراج إلى مستوى الحبكة التي تضمنها السيناريو.