2013/05/29

محمود عبد الرحيم – القدس العربي ثلاث شخصيات تمحورت حولها دراما رمضان المصرية، وأخذت المساحة الأكبر في البناء الدرامي لمسلسلات هذا العام، رجل الشرطة، ورجل الأعمال ورجل الدين، ويكاد لا يخلو عمل تقريبا من حضور قوي لواحدة من هذه الشخصيات، أو الثلاث مجتمعة. وإن كانت السمة البارزة في التعاطي مع هذه النماذج الإنسانية، هي الميل إلى تلميع الشخصية الأمنية، على حساب رسم صورة سلبية لكل من رجل الأعمال ورجل الدين، بشكل يوحي بالتضحية بصورة الثاني والثالث لصالح إعلاء الأول، وكأن ثمة مقايضة أو حالة تواطؤ ضمنية، قد جرت بين صناع الدراما وجهات الإنتاج من جهة والجمهور من جهة أخرى، مفادها أن تتم مغازلة المشاهد بتقديم ما يريد أن يسمعه ويراه عن عالم البيزنس وفساده وصراعاته وإظهار سيئاته، لإشباع غريزة الانتقام الافتراضي ممن يقومون باستغلاله ويزدادون غنى، مقابل إزدياده فقرا وشقاء، استنادا إلى المغزى 'التطهري' الذي قدمه أرسطو لوظيفة الدراما، وسعيا إلى حالة من التنفيس عن الغضب المتراكم من فساد مستشر يزكم الأنوف. وكذا الحال مع شخصية رجل الدين، الذي جرى إظهاره بمظهر المنافق والمدعي والمتناقض والانتهازي، الذي ينال أهمية وقيمة مادية ومعنوية لا يستحقها، ويصعد بشكل فجائي أعلى السلم الاجتماعي، فيما جرى التركيز على رجل الأمن وإبرازه على نحو مغاير، باعتباره شخصية قوية وأمينة وذكية، تسهر على راحة الناس، وتتعامل معهم بود، وتسعى لإظهار الحقيقة بدأب وإخلاص، من أجل المصلحة العامة وحماية أمن الوطن، وهي الصورة المناقضة للواقع، حيث تبدو الصورة الحقيقية مشوهة تزدحم بتفاصيل يومية، ووقائع أقلها سوءا التعامل بصلف وتعال على الجماهير، مرورا بالتعذيب، وليس انتهاءا بالقتل والاغتصاب، حسبما ترصد وسائل الاعلام والمنظمات الحقوقية بانتظام، التي تصف انتهاكات جهاز الأمن المصري بـ'الممنهجة'، وأنه يعمل لصالح أمن النظام، وليس أمن الشعب، ولا الوطن. إن كانت شخصية رجل الشرطة جذابة لصناع الدراما، لأنها مرتبطة بصنع حالة صراع درامي سهلة، يتوافر لها قدر من التشويق والإثارة المرتبطة بعالم الجريمة، وما يرتبط بها من غموض ومطاردات ومحاولة لحل اللغز، فيبدو أن ثمة أهدافا غير درامية كانت وراء إبراز هذه الشخصية، ووجودها الكثيف في مسلسلات رمضان. لا أظن أن قانون الصدفة يصلح تطبيقه على هذه الحالة إلا فيما ندر، خاصة أن للتكرار دلالته، فضلا عن أن وزارة الإعلام بمؤسساتها منتجة، أو مشاركة في إنتاج معظم هذه الأعمال، بالإضافة إلى أن شركات الإنتاج الخاصة ذاتها، ترتبط مصالحها مع المؤسسة الحكومية، سواء بإيجاد منافذ للتوزيع، خاصة في ظل تزايد عدد القنوات المصرية، التي تعرض المسلسلات، ومنها محطتان متخصصتان في عرض المسلسلات على مدار الساعة ، جنبا إلى جانب مع المحطات العامة، التي بها مساحة لا بأس بها لعرض أكثر من مسلسل، إلى جانب ملمح آخر يتمثل في تقديم تسهيلات إنتاجية، سواء ما يتعلق بتصاريح التصوير، أو استئجار أماكن ومعدات، بما فيها عربات الشرطة وأحيانا أفراد أمن، أو ما يخص تسهيل موافقة الرقابة على النصوص. إذا ما قمنا بمقاربة بين الواقع الدرامي والواقع المعاش، فسندرك أن الطرح الذي نطرحه ليس من قبيل المبالغة أو التأويل المتعسف، ويكفي أن ندلل فقط بواقعة التعذيب الأخيرة، التى أودت بحياة الشاب الاسكندري خالد سعيد، والتقارير الحقوقية والدولية، التي تسببت في رسم صورة غاية في القتامة لجهاز الشرطة المصري، ما استلزم حملات دعائية تسعى لنفي هذه الاتهامات، ومحاولة مستميتة لتلوين هذه الصورة السوداء. وأتصور أن الدراما الرمضانية في جانب كبير منها، تم توظيفها هذا العام، بما تملكه من قدرة على التأثير القوي غير المباشر على جمهور عريض يقدر بالملايين، في هذه الحملات، وفي نقل رسالة تصطدم مع الواقع، غايتها تصحيح الصورة المشوهة، وإظهار رجل الشرطة بمظهر الشخصية المثالية، التي علينا أن نفخر بها، ونمتن لها، لا أن نبغضها ونخشاها ونستاء من تجاوزاتها وانتهاكاتها المنظمة لحقوق الانسان. ووجود اسم إدارة العلاقات العامة بوزارة الداخلية على معظم التترات ينسجم مع هذا الطرح، بل ويؤكده، بالترافق مع آليات أخرى في توقيتات متقاربة، كفقرات برامجية تتحدث عن إنجازات جهاز الشرطة، والأدوار الإنسانية التى يقوم بها من قبيل السماح لسجين بزيارة أمه المريضة في البيت، أو حضور جنازة أبيه، أو تقديم هدايا لأبناء المسجونات وتنظيم يوم ترفيهي، أو الاحتفاء بـ'رجل الشرطة الأمين' الذي يرفض رشوة، أو 'الشجاع صاحب المروءة'، الذي يتعرض للإصابة أثناء إنقاذ سيدة من الاغتصاب، وكأن هذا ليس واجبه، أو وضع عنوان الكتروني، وأرقام هاتفية لوزارة الداخلية للإبلاغ عن شكاوى المواطنين والإلحاح على معلومة 'تدريس منهج حقوق الإنسان في أكاديمية الشرطة'. ونفس الصورة التى يتم تسويقها برامجيا، جرى تكرارها في المسلسلات، بل أخذت شكلا إنسانيا مثيرا للتعاطف، فعلى سبيل المثال في مسلسل'ماما في القسم' للسيناريست يوسف معاطي والمخرجة رباب حسين، نرى ضابط الشرطة يتعامل مع المترددين على القسم بمودة وتفهم، ويطبق القانون بعدالة، بدون النظر إلى نفوذ أي أحد، للدرجة التي يتقبل فيها تحرير مئات المحاضر ضد كبار مسؤولي الدولة، بل ويقوم بالشهادة في حق إحدى المواطنات ضد مسؤول كبير، بل وينسج معها علاقة إنسانية راقية، تصل إلى مستوى التعامل الأسري. ليس هذا فحسب، بل ذهب المؤلف إلى تصويره، على نحو يستحق التعاطف معه، حين تطرق إلى حياته الخاصة، وتعرضه للخداع والخيانة من قبل من أحبها، والقبول بتعنيفه من قبل السيدة، التي وسطها والده المستشار لإقناعه بضرورة الزواج، باعتبارها في مقام أمه، وحين أعجبته فتاة وتقدم لخطبتها، ووجد آخر ينافسه، تصرف بلباقة وتسامح وانسحب في هدوء. ولم تبتعد هذه الصورة البراقة كثيرا، عما جرى تصويره في مسلسل 'قصة حب' للسيناريست مدحت العدل والمخرجة ايمان حداد، فضابط أمن الدولة نراه شخصية تعشق عملها، وتخلص له إلى أقصى مدى، من أجل حماية الوطن من الأخطار المحدقة به، لدرجة تعرضه لمحاولة تصفية جسدية على يد جماعة إرهابية، فيما نراه يكتب الشعر، ويتعامل مع من يستجوبهم برفق، ويقدم لهم 'العصير' وكأنهم ضيوف، استدعاهم لمقر أمن الدولة، من باب النصح والتحذير، وليس الإهانة والإذلال والاعتقال العشوائي. حتى الشاب الذي حاول اغتياله يتم التحفظ عليه لبعض الوقت لحمايته، مع النظر إليه كضحية. وحين يختلف مع أخيه الأكبر الذي وقع في غرام أرملة إرهابي، يحذره، ثم سرعان ما يتقبل الموضوع بتسامح ورفق، مقدرا ما فعله من أجله وهو صغير، ورغم الصدام بينهما وقيام الأكبر بصفعه، لم يستغل نفوذه لإفساد الزواج، وفي موقف اخر لم يتدخل لحماية أخيه من التحقيق معه ووقفه عن العمل، بعد شكوى كيدية، أو يمارس الضغط على موظف الشهر العقاري لإبطال عقد تنازل لأخيه عن 'الفيلا'، التي ورثوها جميعا عن أبيهم، أو التدخل لوقف إدانة زوج اخته في خطأ طبي أودى بحياة سيدة، فهو رجل يحترم القانون ويطبقه حتى على نفسه. الأكثر من هذا أننا نراه ضعيفا أمام سطوة زوجته ومتقبلا لتسلطها أو حتى لسخرية الأولاد، فهو أب وزوج عادي مثل ملايين المصريين. ويبدو ضابط أمن الدولة في العصر الراهن في مسلسل 'الجماعة' للسيناريست وحيد حامد والمخرج محمد ياسين حكيما يغلب منطق العقل، والتعامل مع مثيري الشغب ومستخدمي العنف، بروية واحتواء، لمنع العنف وكرد فعل، وليس كخطوات استباقية وضربات إجهاضية، كما هو واقع الحال، وخلافا لما كان يحدث في الماضي من انتزاع الاعترافات تحت التعذيب. وفي استجوابه لقيادة إخوانية متهمة، يعامله بترفق بلا خشونة أو تجاوز. بينما في مسلسل 'أهل كايرو' للسيناريست بلال فضل والمخرج محمد علي، نجد ضابط المباحث ذكيا مثابرا يعمل ليل نهار من أجل فك لغز الجريمة، بدون مراعاة أيه ضغوط، وكذا الحال مع مسلسل 'بالشمع الأحمر' للسيناريست مريم نعوم والمخرج سمير سيف، حيث يعمل ضابط المباحث بالرجوع الدائم والتنسيق مع وكيل النيابة، حرصا على أن تكون كل تصرفاته قانونية، ولا يقبل أن يقبض على مشتبه فيه بدون إذن ضبط، وحين يستمع لمعلومات من مشتبه فيه حول القاتل الحقيقي، يتجاوب معه، ويساعده في إثبات الحقيقة، وليس إنهاء القضية بأي شكل، وتقديم أي متهم بصرف النظر إن كان مذنبا أو بريئا، وبدون مراعاة أن القاتل الحقيقي صاحب نفوذ مالي وسياسي وعضو برلماني. وفي مقابل هذه الصورة المثالية لرجل الشرطة، تجيء صورة رجل الدين، ففي مسلسل 'أكتوبر الآخر' للسيناريست فتحي دياب والمخرج إسماعيل عبد الحافظ على سبيل المثال، نجد رجل الدين منافقا شهوانيا، يلون الفتوى، حسب مقتضيات المصلحة، ويسعى لاصطياد الفتيات والتغرير بعقولهن باسم الدين، فيما يتحالف مع رجال الأعمال الفاسدين. بينما في مسلسل 'الحارة'، للسيناريست احمد عبد الله والمخرج سامح عبد العزيز، نجد رجل الدين هاويا، دخل إلى باب الدعوة من طريق الفراغ وحب الظهور، وينصح الناس بأشياء لا يستطع هو ذاته أن يفعلها، وبالتناقض مع ممارساته هو وأسرته، ففي الوقت الذي يدعو الناس إلى الابتعاد عن اللهو، وينظر إلى الفن والتلفزيون، باعتبارهما من المحرمات، لا يستطيع أن يمنع ابنه من احتراف الغناء، أو الزواج من مومس، وحين يحضر جلسة حكم عرفية ينتصر للقوي على حساب الضعيف، ويقوم بشراء تلفزيون سرا، وينتهز فرصة انشعال زوجته لمشاهدة لقطات مثيرة، ويقبل أن يتزوج من فتاة متحررة تصغره سنا عندما يغتني، مضحيا بكرامة زوجته التي صبرت عليه وعلى عشرته المتشددة المليئة بالحرمان، كما يقبل أن يخدع الناس ويكذب عليهم، ويفتي بغير علم في قناة تلفزيونية من أجل الشهرة والمال. وحتى في مسلسل 'الجماعة' يبرز المرشد حسن البنا أيضا كنموذج للانتهازية والنفاق والتحالف مع الشيطان من أجل مكاسب شخصية. بينما في مسلسل 'قصة حب' رجل الدين ليس سوى إرهابي يعتنق أفكارا متطرفة، ويسعى لتدمير عقول الشباب باستقطابهم للتطرف، وحثهم على القيام بعمليات انتحارية باسم الجهاد، فيما يفر ناجيا بنفسه، حين يشتد الحصار. وبدت صورة رجل الأعمال هي الأخرى مشوهة، وذات طابع نمطي مكرر من سنوات، وتكاد تكون الشخصية هي هي بملامحها المادية والنفسية، من مسلسل 'بالشمع الاحمر' إلى 'ريش نعام' مرورا بـ 'ماما في القسم'، و'أكتوبر الآخر'، و'زهرة وأزواجها الخمسة' و'بره الدنيا'، فرجل الأعمال يسكن القصور، ويركب أفخم السيارات محاطا بالبودي غارد، وكلهم تقريبا يشتهون النساء بنهم، ويلهثون وراءهن، ويتصرفون بسفه فيما يخص الإنفاق، ويقومون بأعمال قذرة، ويستخدمون النفوذ والمال لشراء أي شخص، لتحقيق مصالحهم الخاصة، ويقودون حربا ضروسا بين بعضهم البعض، لا لشيء إلا بدافع الجشع. ومثلما لم يقدم صناع الدراما نموذجا لرجل الدين المعتدل صاحب الموقف والرسالة، لم يقدموا نموذجا لرجل أعمال عصامي، أو من يقود صراعات على أرضية الشرف، اللهم إلا في جانب من مسلسل 'أكتوبر الآخر'، حيث الثري العجوز الذي لعب بطولته الفنان رشوان توفيق، جرى جره لساحة المحكمة بتهمة السفه، ومن أجل الحجر على ممتلكاته، لأنه يقوم بأعمال الخير، وهي رسالة ذات نبرة سلبية أيضا.