2012/07/04

 رجل واحد بمثابة مؤسّسة كاملة
رجل واحد بمثابة مؤسّسة كاملة

قيس مصطفى - بلدنا

ربما كانت الساحة السينمائية بحاجة ماسّة إلى رجل مثله. فهو من الأشخاص الذين يصنعون حالة من التوازن في الأوساط السينمائية التي يذهب إليها. ففي الوقت الذي ينهش جسد السينما المئات من الصحفيين الذين يكتبون مقالات انطباعية لا تحمل أيَّ تيمة نقدية، يصنع بشار إبراهيم مواقف غير مرتجلة مبنيَّة على منهجية في التعامل مع النصوص البصرية. يبدو الرجل محتجّاً دائماً.. إنه في حالة مستمرَّة من المعارضة للارتجال الحاصل.

هكذا تجده يكتب على صفحته الشخصية على «فيسبوك» ممتعضاً من حالة يتفوَّق فيها المشاهد على المخرج، والقارئ العادي على الناقد السينمائي: «إنو يعني.. لما بيكون المشاهد يفهم أكتر من المخرج.. وبيكون القارئ بيفهم أكتر من الناقد.. شو القصة يا شباب؟».

ولد بشار إبراهيم، الناقد السينمائي، في درعا (1962) في جنوب سورية، لكن أهله جاؤوا من الشمال الفلسطيني من قرية الخالصة التي هدمها الإسرائيليون وبنوا محلها مستعمرة «كريات شمونة»، وبين ذلك الجنوب والشمال كانت حكايات كثيرة تتوالد، حكايات كتبت قصصاً نشرها بشار إبراهيم في مجموعة قصصية عنونها «سيف الدخان» (دار الحصاد- 1995)، ويبدو أنَّ بشار إبراهيم لم يجد ضالته في الكتابة القصصية، فنشر مجموعة شعرية بعنوان «موال الجمر» (دار كنعان- 2000)، ولكنه انصرف عن الكتابة الأدبية إلى كتابة أخرى شكَّلت مشروعاً حقيقياً. لم يتأخَّر بشار إبراهيم في تحديد استراتيجية يبني عليها مشروعه الثقافي، فوجد نفسه غارقاً في سحر السينما. قبل حوالي سنة ونصف، عاد بشار إبراهيم إلى سورية، في إجازة قادماً من دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث يعمل هناك مشرفاً إنتاجياً في قناة «الشروق» الفضائية.. صديق مشترك جمعنا في مبنى الجريدة، وقرَّرنا إجراء حوار عاجل، كان حديثاً شيّقاً جداً، ولكن المفاجأة أنه بعد تسجيل دام حوالي أكثر من ساعة، اكتشفنا أنَّ المسجّلة لم تكن تعمل، فاتَّفقنا على إتمام الحوار إلكترونياً، ولكن ذلك لم يحصل. مؤخراً نال بشار إبراهيم ذهبية في مهرجان القاهرة للإعلام العربي، ولعلها المكافأة الوحيدة التي نالها إبراهيم، ومع ذلك فإنَّ غبناً واضحاً لحق الرجل سنوات طويلة، فعلى الرغم من أنه نذر نفسه لتوثيق السينما السورية والسينما الفلسطينية، إلا أنَّ أياً من الجهات المختصة في السينما والثقافة لم تحتفِ بالرجل أبداً، وعلى الأغلب لم يدعمه أحد في إتمام مشروعه، اللهم إلا تلك المبادرة التي بادرتها باتجاهه المؤسسة العامة للسينما، حينما كلَّفته بإعداد كرّاس لم يُنشر يصاحب إحدى التظاهرات الخاصة بالسينما الفلسطينية. ومن بعدها، اتَّضح المشروع تماماً، فأصدر بشار إبراهيم «السينما الفلسطينية في القرن العشرين» (وزارة الثقافة، 2001) و»ألوان السينما السورية- دراسة سوسيولوجية» (وزارة الثقافة، 2001) و»ثلاث علامات في السينما الفلسطينية الجديدة» وفيه يوثّق نقدياً لتجارب كلٍّ من السينمائيين: ميشيل خليفي، ورشيد مشهراوي، وإيليا سليمان (المدى- 2004).

على مستويات ثقافية أخرى، اشتغل بشار إبراهيم العديد من الدراسات، هكذا نشر «نظرة على الرواية الفلسطينية في القرن العشرين» (دار الطارق، 2000) و»المخيم في الرواية الفلسطينية» (وزارة الثقافة، 2004).. ويخفي في أدراجه الكثير من الدراسات والمشاريع الجاهزة التي تنتظر جميعها الظهور إلى العلن. وقد استطاع بشار إبراهيم إنشاء مكتبة سينمائية تتضمَّن حوالي 150 فيلماً فلسطينياً، إضافة إلى ما يتجاوز 100 فيلم عربي وأجنبي، تتطرَّق إلى قضايا فلسطين. وبهذا يكون بشار إبراهيم فرداً بمثابة مؤسسة كاملة، وفي الغالب قصَّرت المؤسسات الثقافية الفلسطينية تجاه قضيتها، واكتفت بما لا ينبغي لها أن تكتفي به. أهمية بشار إبراهيم على المستوى الثقافي، تكمن في أنه وجد في السينما الفلسطينية المغيَّبة أداة حضارية لمخاطبة الآخر، وبالتالي بذل كلَّ جهوده للحفاظ على هذه الأداة، في الوقت الذي تراجعت فيه مشاريع التحرير القهقرى، وتتضاعف الأهمية عندما يكون الاشتغال نقدياً، لا تجميعياً، وهذا ما يعوز الثقافة العربية عموماً، والفلسطينية خصوصاً، في الكثير من المجالات والميادين. كتب بشار إبراهيم في الصحافة السورية والفلسطينية والعربية، وهو بمساهماته الصحفية يشكِّل إضاءات مستمرَّة على أحداث وتفاصيل سينمائية، ما كان من الممكن لأحد أن يلتقطها لولا بصيرته السينمائية النافذة..