2013/05/29

شتاء المهرجان وديمقراطية الجمهور
شتاء المهرجان وديمقراطية الجمهور


مارلين سلوم – دار الخليج

حزين هذا الشتاء الذي يرتدي زي “الربيع العربي” .

حزينة هذه الشوارع التي تحاول أن تلبس أزياء الحياة اليومية والطبيعية وأزياء الأعياد والمهرجانات، من دون أن تفلح في نزع هالة السواد التي تحيط بها .

حزين هذا المشهد الذي لا ينتهي على الشاشات، والذي يحمل الكثير من البكاء والدماء .

تحت مظلة هذا الحزن جاء مهرجان القاهرة السينمائي إلى موعده، لا ليحتفل ويبتهج، بل ليثبت وجوده واستمرار الفن كعصب أساسي ومهم في عاصمة الفن الأولى في العالم العربي مصر .

لم يكن مستحباً أن يتخلّف عن الموعد، وأن يعتذر عن إقامة أيامه هذا العام، لأن حضوره ولو بشكل رمزي وحزين، ضروري لما يحمل من معانٍ ورموز، تماماً كوجود أي صرح فني وثقافي وأي مناسبة عالمية كبرى . وعرض الأفلام خلال ليالي المهرجان يشبه أي معرض فني يمكن أن يقام هنا وهناك في ظل الأحداث المتنقلة في أكثر من دولة عربية . فهو عمود من أعمدة الفن، ومناسبة تجمع أفلام العالم ونجومها على أرض الكنانة، تكريماً لها ولهم، وتقديراً لجهودهم، وتقييماً لأحوال السينما كل عام .

تتناقض كلمة “مهرجان” مع الأوضاع التي تعيشها مصر حالياً، وقد تساءل البعض عن جدوى إقامة هذه المناسبة الفنية في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها البلد، وبينما الشوارع والميادين ملتهبة والدماء تسيل . لكن المهرجان ليس مجرد مناسبة حديثة الولادة، بل هو حدث وله تاريخ، وحضوره في ظل هذه الظروف دليل على أنه ليس مجرد مناسبة فنية عابرة، وأنه وإن غاب العام الماضي، إلا أن حضوره ضروري ليتأكد للجميع أن الفن في مصر ليس “غلطة” يجب أن تُصحّح، ولا هو من الماضي الذي يجب تغييره مع “العهد الجديد” . ولأن مهرجان القاهرة السينمائي ابن بيئته وابن هذا البلد، كان من الطبيعي أن يأتي في موعده وأن يرتدي الزي المناسب لهذه المرحلة، كما حصل فعلياً، وقد عُرضت في الافتتاح أفلام قديمة تناسب أجواء الثورة مثل “شيء من الخوف” و”الناصر صلاح الدين” . صحيح أن هناك أشياء أخرى تجنب عبرها المهرجان “معاداة” الدولة وإغضاب وزارة الثقافة، خصوصاً لناحية اختيار الأفلام المشاركة في هذه الدورة ورفض أفلام أخرى اعتبرتها إدارته “حساسة” وقد تمس رموز السلطة، لكن ما حصل منذ الافتتاح وحتى الختام جاء في مصلحة الفنانين وأهل السينما في مصر .

هل من المفترض أن يتكلم المهرجان في السياسة وأن يعلن موقفاً مما يحدث؟ كما قلنا، هو ابن بيئته، وهو منصة يقف فوقها أهل الإبداع الذين ينادون دائماً - شأنهم شأن كل المبدعين الفنانين في العالم - بحرية الرأي والتفكير وباحترام الفن وأهله، فكيف لهم أن يلغوا عقولهم ويتخلوا عن مبادئهم مراعاة لشعور جهة ما أو أي مسؤول عن إدارة المهرجان الذي صنع أساساً من أجلهم؟ لذلك كان من الطبيعي أن يعبر كل فنان عن رأيه على طريقته خلال المهرجان، وأن تسود أجواء الحزن على المشهد العام، وأن تُلغى كل الاحتفالات والبهرجة لتبدو كالقشور التي لا لزوم لها، بينما الجوهر موجود والرسالة وصلت .

أكثر من رسالة مررها المشاركون في المهرجان وكلها جاءت في الإطار “السياسي” رغم أنها رسائل فكر ورسائل اجتماعية، باعتبار أن السياسة لا تنفصل عن الفن، طالما أنها جزء من الحياة وتمس الشعوب وتقرر مصيرها ومسارها، وطالما أن الكل يطلب من الفنانين أن يلتحموا مع الواقع ويجسدوا معاناة شعوبهم على الشاشة وفي الغناء والموسيقا . من هنا رأينا نجمات يرفضن السير على السجادة الحمراء ليلة الافتتاح وابتعدن عن عدسات المصورين، واستبدلن ملابس السهرة والأزياء المبهرة بالملابس السوداء حزناً على الشهداء وعلى أحوال مصر، مثل سوسن بدر وليلى علوي وإلهام شاهين ويسرا ورجاء الجداوي . . واتشحت أغلبية الفنانات بالأسود طوال فترة المهرجان وصولاً إلى الختام الذي جاء بلا حفل، حيث حملت الفنانة بشرى حقيبة مصنوعة من العلم المصري .

وإذا كان الشارع المصري قد فرض أجواءه على مهرجان السينما، فقد تمكن ميدان التحرير من أخذ الفنانين إليه من قلب المهرجان في سابقة فنية . ولم يكن انسحاب المؤلف مدحت العدل، عضو لجنة التحكيم بالمهرجان، والمنتج محمد حسن رمزي، وشريف رمزي، وحمدي الوزير والمخرج خالد يوسف، من المهرجان بعد انتهاء مراسم الافتتاح متوجهين بملابسهم الرسمية إلى الميدان للوقوف إلى جانب شبابه، لم يكن وحده الموقف المفاجئ والذي تمكن من توجيه الأنظار والإعلام إلى الميدان، فإن الفنانين الأجانب والمشاركين في المهرجان بدورهم توجهوا إلى ميدان التحرير إما من باب الفضول أو التأييد .

البعض بكى على الخشبة، والبعض الآخر عبّر عن رأيه وموقفه صراحة من دون خوف من أحد ولا من خسارة جماهيريته وحب فئة من الناس له . لكن لماذا يخاف الفنانون العرب من إعلان موقفهم السياسي صراحة، ولماذا لا بد لهم من أن يدفعوا الثمن سواء وقفوا إلى جانب السلطة أم ضدها، وسواء نزلوا إلى الشارع أم سكنوا بيوتهم والتزموا الصمت حتى تهدأ العاصفة؟

السؤال ما زال يحيرنا، وهو مطروح في كل بلد عربي وليس في مصر أو سوريا فقط . وإذا كانت اللوائح السوداء والبيضاء قد طاردت الفنانين منذ اندلاع ثورة 25 يناير، فإن الأفظع شاهدناه في سوريا، حيث تم قتل فنانين وسجن آخرين وتعرّض البعض للاختطاف والتهديد والشائعات، ناهيك عن موجة الشتائم المتبادلة التي هبت في مختلف الوسائل الإعلامية والإلكترونية، بين الفنانين وبعضهم بعضاً من جهة، وبينهم وبين الجمهور من جهة أخرى . لماذا؟ هل نطلب من الفنان أن يكون ابن مجتمعه ويعبر عن أوجاعه وآرائه في الأعمال الفنية، وأن يكون صاحب مشاعر ونطالبه بتقديم أغانٍ وتأليف قصائد والبكاء على الوطن وقت المحن، من باب “التمثيل” فقط؟ أي أننا نريده فناناً في كل الأحوال ونستكثر عليه أن يعيش إنساناً عادياً وأن يكون له موقف ورأي بشكل جدي وعلني؟

أثناء الحملات الانتخابية للرئاسة الأمريكية، رأينا أشهر النجوم يرتدون قمصاناً مكتوب عليها اسم مرشحهم المفضل، بينما ذهب البعض إلى المشاركة في الحملات الانتخابية في المناطق، ودعوة الناس صراحة لانتخاب هذا المرشح لا ذاك، من دون أن يخافوا من قتل أو خطف، ومن دون أن يشتمهم أحد أو يتأثر رصيدهم من المعجبين . هناك يفصلون بين موهبة الفنان وأعماله التي يقدمها، وبين موقفه الشخصي ورأيه السياسي وحياته الاجتماعية . لا يحرمونه من حقه المدني كأي مواطن أمريكي عادي، ولا يقفون له بالمرصاد ليحسبوا عليه أنفاسه وتحركاته .

يبدو أننا جماهير تأسر نجومها “من كثرة الحب”، وتحيطهم بهالة من “القدسية” الخرافية التي لا وجود لها في الواقع . ويبدو أن موعدنا مع الديمقراطية الفنية لم يأت بعد