2013/05/29

ظواهر ومظاهر جديدة في «زمن البرغوث»
ظواهر ومظاهر جديدة في «زمن البرغوث»


بسام سفر – تشرين

يلعب التوثيق الدرامي في أعمال البيئة الشامية دوراً كبيراً في بث حياة قريبة من الواقع في تلك المرحلة التاريخية،
ذاك ما نجده في العمل الدرامي «زمن البرغوث» الذي كتبه محمد زيد في ستين حلقة أو أكثر حيث عرض منه في رمضان 2012، أكثر من ثلاثين حلقة، وهو من إخراج احمد إبراهيم احمد. فالتوثيق في هذا العمل يبدأ من الاسم «البرغوث» وهو العملة التركية الورقية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وهي عملة فاقدة قيمتها، فقيمتها قليلة جداً، ويدل هذا العنوان على الفقر الذي كان موجودا في تلك المرحلة. فالأحداث في هذا العمل تدور بين عامي 1919 حتى 1926، وهي نهاية الحكم العثماني لسورية وبداية الاحتلال الفرنسي لها، مروراً بمرحلة الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين، ودخول ابنه فيصل سورية وتنصيبه ملكاً على بلاد الشام في أول اجتماع سوري كبير في العاصمة السورية دمشق..

في هذه الأجواء والعوالم الجديدة على دمشق يدخل العمل الدرامي «زمن البرغوث» إلى هذه الأجواء من خلال حارة «عياش»، إحدى حارات حي الميدان الدمشقي، موضحاً العلاقات السائدة في هذه المرحلة ضمن الحارة بين الأسرة الواحدة ذات القربى الشديدة مثل عائلة (المختار أبو وضاح، أيمن زيدان) وهي المشاركة الأولى في أعمال البيئة الشامية وزوجته، وعائلة (أبو عبدو الزكرتي، عبد الفتاح مزين)، وابنته التي تتزوج من وضاح ابن عمتها، وتحدث تجاذبات بين العائلتين لدخول ابن العمة «متعشماً» بهذه العلاقات الأسرية، ويضاف إليهما عائلة شقيق «ابو عبدو»(عبد الهادي الصباغ) وزوجته «المكيودة» دائما من أفعال العمة وسلفتها. هذه العلاقات الأسرية مفتوحة على أجواء الحارة وسوقها وناسها، ويضاف إليهم عائلة «فايز قزق» في حارة قريبة، وعائلة عياش التي يظهر منها العكيد(رشيد عساف، ابو ادهم) وزوجته (صفاء سلطان) وأبناء عمومته (قيس الشيخ نجيب) وأهله، وابن عمه الآخر الذي يطفش من الحارة في ليلة ما فيها ضوء نتيجة (البصبصة) استراق النظر إلى زوجة ابن عمه ابو ادهم، وعندها يلحظ ذلك ابو ادهم، ويدخل لكي يدافع عن عرضة زوجته يفر ابن عمه من الحي، ويأتي خبر موته، ويقام له عزاء في الحي، لكنه لم يمت جسدا، وإنما مات اسماً، وعاش في حي دمشقي حتى وصلت أخباره إلى العكيد فذهب إلى ذاك الحي بحثاً عن الشيخ الذي هو ابن عمه فيموت هناك خارج حارته ويتم تعيين ابن عمه (قيس الشيخ نجيب) عكيداً جديداً للحارة بعد حمله حجر عياش.
إن ما يميز «زمن البرغوث» هو أداء بعض النجوم مثل أمانة والي التي قدمت دورا مميزا، وكذلك الفنان سلوم حداد لكن الكثير منهم بقي أداؤه نمطياً.

ظواهر جديدة في دراما البيئة الشامية

لم يذكرني الفنان سلوم حداد في دوره «أبو نجيب» في العمل الدرامي زمن البرغوث سوى بالفنان الراحل فهد كعيكاتي في شخصية «أبو فهمي» البخيل(أي سيدو)، لكن الفنان سلوم حداد يعطي نكهة شديدة الخصوصية لشخصية «أبو نجيب» إذ نجد لدى هذه الشخصية الملحاحية الشديدة، والإصرار الحاد على الحصول على كل ما وعد به أثناء توزيع أضاحي المختار (أيمن زيدان، أبو وضاح)، فيذهب ويعسكر أمام ديوان المختار, في اليوم التالي من (جهجهة) الضوء (الصباح الباكر جدا)، ويخرج صباحاً مع المختار إلى ديوانه، فيرسله مع مراسله والعامل في المكتب إلى ملحمة أبو فخري، فيرد أبو فخري بأنه البارح وزع كل الذبائح بما فيها جلودها، ولم يبق شيء، فيعود أبو نجيب إلى ديوانية المختار، ولا يتزحزح منها إلا رجله على رجل المختار إلى ملحمة «أبو فخري»، ويشتري له المختار ما وعده به وأكثر حتى يهنأ بال أبو نجيب، ويحل على المختار مؤقتاً.

ونتيجة حالة البخل عنده، وعدم استدعاء الطبيب تتوفى زوجة «أبو نجيب» الأولى فيأتي أخوه ويأخذ ابنتيه إلى داره لكي تعيشا عنده فيوافق بسرعة شديدة، لكن فيما بعد يذهب إلى ديوان المختار وبوجود عكيد الحارة ويطلب من المختار أن يذهب معه إلى بيت أخيه لكي يأخذ (أجرة وجود بناته عنده وعملهم في منزله، كسيدي)، لكن المختار يقنعه أن ذلك غير مناسب، وسيستخدمه أخوه ضده. أما الفعل الغريب الذي يقوم به أبو نجيب فيكون عندما يضع مختار الضيعة التي سيتزوج منها العشاء، وقبل أن يبدؤوا بتناول العشاء، يأتي خبر موت أحد أبناء القرية في المشكلة التي سببها أبو نجيب في الصباح في قرية أخرى، فيذهب جميع أبناء القرية إلى بيت الميت إلا أبو نجيب يكمل تناول طعامه من دون أي رادع أو وازع أخلاقي... وإن فعل الكسب يستغرق كل هذه الشخصية، لكن طرائف هذه الشخصية نجدها عندما تشتري زوجته الثانية( أم عبدو، لينا حوارنة) وقية كباب مشوي، ولا تبدأ بأكلها إلا عندما يعود إلى البيت حيث يحرض فعل الأكل الذي تقوم به زوجته كل الجوع لديه، فيطلب منها «لقمة»، وتعطيه ما يريد بقطعة خبز صغيرة، فيأخذ قطعة خبز أكبر ويلف «لقمة الكباب» بها، ويأكلها.

إن هذه الشخصية الفذة الموجودة في متن النص الحكائي لزمن البرغوث، والتي طورها وعمل عليها الفنان سلوم حداد، بإشراف المخرج أحمد إبراهيم أحمد تؤكد عمق وحضور الممثل السوري المبدع الأول لكل شخصية درامية سورية، وهذا ما يعد مفتاحاً لهذه الشخصية الدرامية ويعطيها أبعاداً إنسانية كبيرة جداً عما كتبت عليه.
ومن الظواهر الجديدة في العمل أن يؤخذ جهاز بيت العريس الذي اختاره العريس والعروس بعراضة شامية كبيرة، وهذا من النوادر المشهدية التي حصلت في الدراما البيئية الشامية. وهذه المشهدية الجميلة تطرح إمكانية تفتيح العادات القديمة نحو مشهدية وفرجة جديدة في العمل الدرامي السوري، وفي السياق ذاته نجد فرجة جديدة، إذ نادراً ما كان لدى البيئة الشامية في يوم العرس أن يقام بيت شعر، ويطعم (المعازيم، الضيوف) في بيت الشعر وفرقة شعبية بدوية أو قروية تؤدي وصلة شعبية كاملة بحضور شيوخ من البدو(هشام كفارنة وبقية أفراد العشيرة)، وكذلك بعض زعامات الريف الدمشقي متمثلة في «مخاتير» بعض القرى ومن بينهم(أحمد مللي)، يضاف إلى ذلك اجراء سباق خيل خاص بشباب (الحارة، الحي) ومن المعروف تاريخياً أن ميدان سباق الخيل في دمشق كان مكان بناء معرض دمشق القديم بدايته في البرامكة ونهايته غير محددة حتى بداية دمر.

ويضيف زمن البرغوث ظواهر فرجوية جديدة في الحارة الشامية هي «حصان إبليس، العجلة أم الدولابين»، وهي من منجزات الحضارة الإنسانية في ذاك الزمان ونلاحظ تجمع الناس في الحارة لرؤية المنجز الحضاري الجديد، لكن عقلية الحارة وأهلها لا تعطي مكاناً واضحاً للمنجز الجديد، و إنما يحارب بلا هوادة. والمظهر الفرجوي الجديد الذي استخدم في المسرح الأوروبي كثيراً هو صندوق الفرجة، واستخدمه المسرحي السوري الكبير الراحل سعدالله ونوس في مسرحيته الأيام المخمورة، ويعمل على صندوق الفرجة في زمن البرغوث أبو نجيب، وعبد الهادي الصباغ، إلا أن «أبو نجيب» في عمله هذا أكثر إخلاصاً له من الصباغ.

إن هذه المظاهر الفرجوية الجديدة جاءت من متن النص الحكائي لكن ابرازها وتظهيرها في سياقها الدرامي عمل عليه المخرج أحمد إبراهيم أحمد، وأبرز التشبيك العلائقي بين قرى الريف الدمشقي والبدو، ومكان المسلسل حي الميدان يجعل من الفرجوية البصرية عاملاً إخراجياً جديداً بعيداً عن نمطية التصوير والإخراج في البيئة الشامية، وعزز المخرج هذه الفرجوية في اختيار زوايا التصوير في عرس «وضاح» ابن المختار إذ نجد أغلب المشاهد واللقطات في مكانها الطبيعي ولاسيما عندما يركب العريس على حصان ابيض وتزفه العراضة الشامية من بيت الشعر المنصوب في ساحة الحي، في لحظة الغروب وما بعدها، وصولا إلى منزله في الحارة. وتبقى هذه اللمسات الإخراجية توضح رؤية إخراجية مبنية على فحص دقيق لمسار كل شخصية وتوظف المشهدية البصرية العامة في السياق الطبيعي للنص الحكائي الدرامي مبيناً
أهمية التعاون الفني الوثيق ما بين مهندس الديكور والمخرج ما يساعد على تسهيل وتوظيف حركة الكاميرا.