2012/07/04

عاصي . . والمسرح الرحباني
عاصي . . والمسرح الرحباني


سلوى عباس - البعث

تقول مقدمة أغنية "نحنا والقمر جيران": "فيكن تتذكروا مين اللي كانوا معكن لما اسمعتوا هالغنية لأول مرة".. ونحن الآن نستحضر هذه الأغنية مع ذكرى رحيل الفنان عاصي الرحباني الخامسة والعشرين، وهو فارس من فرسان الزمن الجميل، شكّل لنا عبر مشواره الفني مع أخيه منصور وسيدة الطرب فيروز ذاكرة فنية تجعلهم باقين في وجداننا، نستحضرهم في لحظاتنا العصيبة، حيث عمل مع أخيه منصور على ثلاثية الحياة "الأرض.. الحب.. الإنسان"، وعبر رحلتهما الطويلة فتش الشقيقان عن هذه المعاني في أصداف البحار ورمال الشواطىء، وهبطا على سطح القمر ومجرات السماء البعيدة إلى أن رسيا بقاربهما في مرفأ صوت فيروز التي تدفقت حنجرتها بجداول وأنهار من الدرر التي نقشت في وجدان كل من سمع هذا الفن السامي والنبيل، وكان عاصي يمثل هرم الفن الرحباني، وكان يدرك هو وأخوه منصور أنهم يملكون فناً جيداً، رغم حاجتهم للثقافة والاختصاص ودراسة المسرح والموسيقا وأصول الغناء، لأن الموهبة وحدها لا تكفي، كما أن الفنان يحتاج إلى الكثير ليصل إلى مرحلة الإبداع، وعليه أن يختصر ويستوعب كل تجارب الحضارة حتى يبلغ منتهاه، وعلى الرغم من أن الحوار الغنائي عندهم يمثل جزءاً من التسلسل الدرامي، إلا أن خلوّ مسرحية من مسرحياتهم منه  تبقيها  متكاملة، وهذا يؤكد أنهم اشتغلوا العمل المسرحي درامياً، متخيلين لفنهم خطاً مسرحياً يؤكدون فيه على أن مسرحهم هو  مسرح المستقبل، وهو العودة إلى الينابيع، وكثيراً ما كان الراحل منصور يردد "مسرحنا تماماً كمسرح شكسبير يعتمد على الاختصار، حيث بأقل كمية من الكلام يمكن أن تشرح أكبر قدر من الأفكار، ذلك لمعرفتنا أن إنسان الفن يستطيع أن يفهم المواقف الكبيرة بالكلام القليل المعبر، وبواسطة الموقف المتطور نحن لانخلق شخصيات ونحركها حسب مشيئتنا، لأن الشخصية ليست حاملة كلام المؤلف، بل إنها تتفجر من تلقاء نفسها، ومسرحنا يستقطب المشاهدين من كافة المستويات، لأنه يحب الناس على اختلاف طبقاتهم وثقافاتهم، فهو يصل لكل فئات الشعب ونحن نفهم واجبنا تجاه جمهورنا، وإننا هنا نقارب التراجيديا اليونانية التي كانت تصل إلى كل الشعب، والخلود الفني لكل فنان يتحقق بما  يتركه من بصمة عند الآخرين".

وتتضح ميزات المسرح الرحباني الإبداعي في اكتمال موهبة الخلق لديهم حيث اللحن المنسجم مع جمال الكلمة الشعرية، فكانت سمة مسرحهم الغنائي في البداية هي الأسطورة الشعرية، فالرحابنة ينوعون في مسرحهم انطلاقاً من تنوع الحياة، فالفكرة بنظرهم هي التي تؤدي إلى الكتابة، ومسرحهم هو مسرح فكرة، لقطة، بقعة ضوء.

وكان المسرح الرحباني قد اتهم بطرحه لقضايا كثيرة، وأحياناً تكون تجريدية ذهنية، مما يصعب وصولها إلى القطاع الشعبي العريض، واستغرب الرحابنة هذا الاتهام وردوا عليه بقولهم: "الفكر العميق ليس نقيضاً للشعب، والهدف عند أي مبدع، بدءاً من شكسبير إلى آخر رجل مسرح في الوطن العربي أن يصل إلى أكبر عدد من الناس، وأن يتفاعل مع أكبر شريحة منهم، لذلك فإن الذين يقولون إنهم لا يهتمون بذلك يكونون عاجزين عن الوصول إلى الناس، وأهم شيء هو الوصول إلى الآخر والتفاعل معه، ومهما كان المبدع جمالي التوجهات لابد أن يلامس الآخرين ويعمل على ترهيف ذوقهم ونقل عدوى الجمال إليهم، ولا يمكنه أن يكتب في فراغ، وحين يتزود الناس بالجمال فإنهم على خطا المبدع الحقيقي يتجهون إلى الحق والخير والله، ومهما تفنن أصحاب النظريات، فإن كل فكر وكل فن يكون ملتزماً، وأهم أنواع الالتزام هو ذلك الذي يرتبط بقضايا الإنسان والحرية، ومسرح الرحابنة  ارتبط بالشعب ارتباطاً عضوياً، وقد استطاع خلال مسيرته أن يكون ضميره وعقله وصوته وألحانه وعاداته وتقاليده، فمن المختار والشاويش ورئيس البلدية، جاء إلى السياسة والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وبالشعر وحده كانت الخشبة تعطي لهم بعمق، وبالموسيقا استطاعوا أن يؤسسوا مدرسة لبنانية قائمة بذاتها، فقبلهم الأغنية كانت سراباً، والموسيقا فوضى.

وما قدّمه الرحابنة من أعمال أكدت على عصرنة مسرحهم وتماشيه مع معطيات الزمن الحالي، إذ لامس مسرحهم وجع الناس، فالإنسان موجوع دائماً ومعذب ووحيد، وهو يموت منفرداً، والمجتمع يشكل زينة صغيرة ولكن في النهاية الإنسان يبقى وحيداً، والمسرح الرحباني يعاني من هذه الحقيقة لأنهم يعنون مايكتبونه.

ومن خلال ذلك ظلت شجرة الرحابنة مثمرة والفن الأصيل ظل مستمراً، فبعد غياب عاصي بقي منصور شامخاً في انتظار الجديد، وبقي يحمل هموم الأخوين رحباني في الحرية والإنسان، واستمر في مواجهة العالم الفاقد للعدالة، ورغم كل الصعوبات التي واجهها كان مصراً على المتابعة، فطالما أن الإنسان موجود فلابد من الحلم والقلب الإنساني ينبوع من الأحلام، وإن بطل الحلم فمعناه السقوط في الموت، وقد تميزت تجربة الرحابنة بموسوعية فنية حازت على اهتمام الملايين من العرب عبر ما خطته من أسلوبية متفردة في مخاطبة الوجدان العربي، سواء في الأغنية أو السينما أو المسرح الذي كان خلاصة التجربة الرحبانية في إثراء الفن العربي، وإضافة على مفرداته الشعرية والموسيقية والفكرية.