2014/04/15

عبد الرحمن آل رشي.. رحيل السوري الجميل.. دائم الخضرة
عبد الرحمن آل رشي.. رحيل السوري الجميل.. دائم الخضرة

 

سامر محمد إسماعيل – تشرين

 

 

هذه الطرفة لم أقلها في حياتي مع الدراما في مختلف مقابلاتي الصحفية.. فأنا وبعد الانتهاء من تصوير أي مسلسل، لا أعود وأذكر عنه «شيئاً.. أنسى كل شيء عنه، ونادراً ما أشاهد مسلسلاً عند عرضه..

 وحتى النص الورقي للعمل كنتُ أعطيه لأولادي حين كانوا صغاراً؛ ليكتبوا على الجانب الآخر من الصفحات ما يشتهونه». هذا الكلام للفنان الراحل عبد الرحمن آل رشي 1934-2014 يعكس بقوة طريقة التفكير الصوفية التي كان يتمتع بها هذا المبدع إزاء الحياة ذاتها؛ وإزاء فكرته عن فن التلفزيون ثانياً؛ فهو قبل كل شيء فنان مسرحي، لطالما عشق المسرح، عشق اللغة العربية التي أتقن إلقاءها وخطابتها بصوته الذي لا يُرد على خشبته؛ فعبد الرحمن المولود في السابع من أيلول من عام 1934 في مدينة دمشق كان نسيجاً وحده بكل معنى الكلمة؛ فهو الفنان الذي لقي مقاومة كبيرة من أهله عندما أراد الدخول إلى العمل في المجال الفني، وما كان ذلك ليتحقق إلا بعد رحيل والده عن هذه الدنيا، حيث عكف الشاب وقتها على التردد إلى «نادي الشرق» للغناء والتمثيل عام 1955، وفعلاً اكتسب وقتها الكثير من المهارات في فن الإلقاء، كما حفظ أكثر من ألف بيت من الشعر العربي، محاولاً ترنيمها وأداءها جهراً على خشبة المسرح، وذلك عوّض بقوة عن شهادة علمية لم تكن ظروف الحياة تسمح له بتحصيلها، وفي هذا يقول الراحل الكبير: «كنتُ أخاف من والدي كثيراً؛ فتحولت عن الفكرة ولم أدخل مجال التمثيل إلا بعد وفاته؛ وكان ذلك من خلال النادي الشرقي عام 1955 النادي الذي ضم أعضاء متمكنين في اللغة والأداء والقراءات وقد سبقوني وقتها بأشواط ما حفزني واستفزني بقوة على تطوير ذاتي عن طريق المعرفة؛ خصوصاً أن مستوى ثقافتي كان سيئاً في بداياتي إذ توقف تحصيلي التعليمي عند/السرتفيكا/ سنة 1944 وإن كانت في وقتها شهادة مقبولة نسبياً إلا أنها لا تتناسب مع وضعي الجديد؛ فواظبتُ على القراءة وكان المخزون الثقافي الرفيق الأجمل الذي قلب حياتي وإلى الآن فإني أحفظ عن ظهر قلب أكثر من ألف بيت من الشعر العربي وأشعر بسعادة غامرة عند استذكارها».

هكذا عرف الشاب عبد الرحمن موهبته وصقلها، وتفرغ أيما تفرغ للمسرح الذي ظهر عليه أول مرة عام 1957 بمسرحية «لولا النساء» والتي قدمها على مسارح القاهرة لمصلحة النادي الشرقي في دمشق، إلا أن البداية الفعلية لهذا الفنان كانت بعد أكثر من خمسة وعشرين ألف ساعة سجلها آل رشي لإذاعة دمشق، كانت البداية عام 1972مع فيلم «المخدوعون» مع المخرج المصري الراحل توفيق صالح عن رواية الراحل غسان كنفاني «رجال في الشمس» وعن هذا الفيلم يقول المخرج الفلسطيني فجر يعقوب مودعاً هذا المبدع السوري: «رحل عبد الرحمن آل رشي، سيُحكى عنه كثيراً، كما لن يخذله فضاء الكتابة والتفجع بخصوص مساهماته التي أثرت الحياة الدرامية السورية، ولكنه سيظل بالنسبة لي ذلك الصقر الجارح (أبو الخيزران) الذي ظهر في رائعة (المخدوعون) وكشف حينها عن الأبعاد الوجودية والفلسفية في حياة تصور للمرة الأولى، كما لم يكشف عنها أحد»

على مدى ثمانين عاماً ونيف حقق عبد الرحمن آل رشي أضعاف عمره من الأفلام السينمائية بثمانية أفلام وثمانين مسلسلاً لا أبا لكَ يسأمِ؛ فعلى الشاشة الذهبية كان «أبو محمد» علامة فارقة في الأداء أمام العديد من المخرجين فمثّل في فيلم «كفر قاسم» مع اللبناني برهان علوية وفيلم «المطلوب رجل واحد» مع اللبناني جورج نصر و«السيد التقدمي» مع السوري نبيل المالح و«ثلاثية العار» مع كل من المخرجين بشير صافية وبلال الصابوني؛ و«الثعلب» و«واحد +واحد» مع اللبناني يوسف معلوف و«اليازرلي» مع العراقي قيس الزبيدي عن رواية للكاتب حنا مينة.

أجل لم يتوقف آل رشي عن تسجيل ذلك الأداء الآسر في أشرطة سينمائية حملت تاريخ وطن بأسره، فابن حي ركن الدين الدمشقي كان متفانياً في تجسيد أدق تفاصيل الشخصية التي يقوم بأدائها، ناقلاً خبراته في الصوت وفنون الأداء إلى أمام الكاميرا، منجزاً نصه البصري الخاص بممثل من قامة رفيعة لم تغرها كل هواجس النجوم وأخبارهم ومطاردة الصحافة لهم، في حين كان عبد الرحمن آل رشي منخرطاً في حياة الناس وهمومهم، وهذا ما جعل من صوته ومن شخصيته الفنية أيقونة وطنية لكل السوريين؛ فلا يختلف أحد منهم أن آل رشي كان عنوان لقاء لا شقاق، واجتماع لا فرقة، يمكن ملاحظة ذلك منذ تسجيله بصوته لأغنية «أنا سوري آه يا نيالي» التي كتبها له ولحنها الفنان حسام تحسين بك، وكم كانت هذه الأهزوجة حتى يومنا هذا مصدر فخر شعبي ووطني بانتماء للأرض التي أنجبت الفنان آل رشي. من هنا عرف الفنان قيمة انحيازه للجمهور، وتمسكه بهويته الوطنية التي لم ولن يساوم عليها يوماً، بل ظل الفنان آل رشي مصرّاً حتى آخر يوم من حياته على ألا يفوّت فرصة أي عطاء أو ظهور له في أوبريت هنا، ولقاء شعبي هناك من أجل التعبير عن موقفه مما يحدث على الأرض السورية منذ آذار 2011؛ فمن ينسى وقوفه في ساحة «السبع بحرات» مخاطباً الجمهور، منبهاً إلى ضرورة الحوار بين الأخوة، ومن ينسى إطلالاته المتعددة هو الرجل الذي بلغ من العمر أرذله في كل ساحة من ساحات دمشق، فلقد أدرك هذا السوري الجميل أن الفنان يجب أن يكون دوماً في واجهة المشهد، متصدراً الجموع، لا منساقاً لها ولغرائز الشارع ونبرات الطائفية المقيتة، في حين كان فنانون ممثلون ومخرجون يختبئون وحتى الآن يتهربون من أي تصريح لمصلحة وسائل إعلام بلادهم، منسحبين من مسؤولياتهم التاريخية والأخلاقية كنخبة من النخب التي خذلت جمهورها وضللته، وعملت على إذكاء نار الفتنة بين صفوفه؛ لنشاهده مؤخراً في أوبريت «بالحب نعمرها» يقف بسنيه الثمانين مرتلاً الأمل «كل شي تدمر بدو يعمر».

من هنا تمكن آل رشي من الإطلالة على ما قدمه هذا القارئ المتنوع فيه عبر ثقافته العالية، ودرايته ودربته على الحياة، فهو ابن هذه الحياة قبل أن يكون ربيب غبار الكتب ووعثائها، شخصية جمعت تجاورات فنية عالية في جماليتها، ومتفردة في صنيعها أمام الكاميرا، إذ يقترب عبد الرحمن آل رشي من شفافية هائلة في التقاط موجة الشخصية والدور على حدٍ سواء، فيعرف أولاً أين يقف في العمل التلفزيوني، يعرف مساحته، ومتى يلعب، وكيف يلعب مع الممثل الشريك، موهبة نادرة في توليف راديو المشاعر وهيمنتها، ثم إنه عرف أكثر من غيره كيف يقدم مساحته الخاصة بالدور عبر معرفته المسبقة بالشخصية التي سيقوم بتجسيدها، وهو في ذلك لم يدخر جهداً في تلحين ومؤاخاة النشازات الجوانية، وتدريبها على التفاعل مع الجوقة التي تشاركه اللعب، ولاسيما في أدوار الشر التي فهمها هذا الفنان وفق تنميط عالي المزاج للسخرية اللاذعة الممزوجة بمرارة الواقع الذي يريد تناوله؛ لقد كان الواقع الذي أراد هذا الفنان أن يقدمه لنا نقدياً وليس واقعاً سطحياً في أدائه كممثل، كما إنه لم يكن محاكاة برانية لمجموعة مواقف ملتبسة إنسانياً، بل هو رؤية جديدة لطالما استخدمها في تحريك دماه الشخصية؛ ففي التلفزيون حقق هذا الفنان حضوراً كبيراً كما في المسرح والإذاعة والسينما؛ فلقد بزغ نجمه كممثل من ممثلي الصف الأول منذ بدايات التلفزيون العربي السوري أول مسلسل شارك فيه كان «بياع الحلوين» أتبعه بمسلسل «القيد» من إخراج غسان جبري؛ ومسلسل «مذكرات حرامي»- 1968 تأليف حكمت محسن، إخراج علاء الدين كوكش. ومسلسل «حارة القصر»- 1970 تأليف عادل أبو شنب، إخراج علاء الدين كوكش أيضاً؛ ومسلسل «رأس غليص»- 1975 إخراج علاء الدين كوكش؛ كما لعب بطولة العديد من الأعمال الدرامية التي قدمته لمختلف شرائح المشاهدين الذين سحرهم أداء هذا الفنان فكان حضوره القوي في مسلسل «غضب الصحراء»- 1993 من تأليف هاني السعدي وإخراج هيثم حقي؛ وفي مسلسل «نهاية رجل شجاع»- 1993 سيناريو وحوار حسن م يوسف، إخراج نجدت أنزور، وفي مسلسل «العبابيد»- 1996 تأليف رياض سفلو، إخراج بسام الملا؛ أتبعه بمسلسل «تاج من شوك»- 1998 تأليف رياض عصمت، إخراج شوقي الماجري.

لم يتوقف عبد الرحمن آل رشي عن تقديم كل جديد ومدهش في أدائه فلقد لعب شخصية «ابن جني» في مسلسل «المتنبي» - للكاتب «ممدوح عدوان» والمخرج «فيصل الزعبي» كما لعب دور البطولة في مسلسل «عطر البحر» من تأليف وسيناريو وديع اسمندر وإخراج غسان جبري. ومسلسل «بيت العز» من تأليف الأديب عبد النبي حجازي وإخراج غسان باخوس؛ فضلاً عن تصدره أدواراً لمسلسلات من قبيل «صراع الأشاوس» من تأليف هاني السعدي وإخراج سالم كردي. ومسلسل «الخوالي»- 2000 تأليف أحمد حامد، إخراج بسام الملا؛ ومسلسل «زمان الوصل»- 2002 تأليف جمال أبو حمدان، إخراج عارف الطويل؛ وفي هذه الأدوار جميعها سنتعرف أكثر إلى جرأة كبيرة اتسم بها هذا الرجل في مواجهة تعقيد الشخصية ونوعها، ملابسها، وقفتها، نحنحاتها، تملصها، حيرتها، مداورتها، غشامتها، غلاظة قلبها، طراوتها الوجدانية، جشعها، حسيّتها، نرجسيتها الكاذبة، تأتأتها؛ كل شيء يقترب هنا من صفات عديدة تمكن آل رشي من توليفها على مقاس وجهه وصوته ونبرته الرجولية العالية.

بقي أن أقول: إن خسارة الفنان عبد الرحمن آل رشي هي خسارة لكل السوريين، حيث سيموت برحيله جيلٌ بأكمله من أولئك الفنانين الذين آمنوا بأوطانهم، ولم يساوموا يوماً عليها، ولم يتخذوها مطيةً لنرجسيتهم وعقدهم، بل كان الوطن بالنسبة إليهم قدس الأقداس؛ فسلاماً على روحكَ أيها الصوت السوري الذي سيهزنا كلما هتف لنا من سفح قاسيون: «أنا سوري آه يا نيالي».