2013/05/29

عبـد الهـادي الصبّـاغ: «يكفـي أن تـربـح نفسـك»
عبـد الهـادي الصبّـاغ: «يكفـي أن تـربـح نفسـك»


رغد مخلوف – السفير


كشخصية خارجة من روايات القرن التاسع عشر الرومانسيّة، يجلس الممثل السوري عبد الهادي الصباغ (1950) في إحدى زواياه الأثيرة، في شارع الحمراء البيروتيّ. في الأشهر القليلة الماضية، تحوّل أحد أبرز نجوم الدراما السوريّة، إلى وجه أليف في زقاق الاسترال. لبيروت وشوارعها عنده حكاية خاصّة. «وأنا في بيروت، لا يغيب عن بالي أنّ السياب والماغوط تسكعا في شوارع هذه المدينة، بجيوب فارغة. واليوم تصرّ بيروت على البقاء عاصمة للثقافة، حتى خلال أيام الحرب كنت ترى فيها على الأقل عشرة عروض مسرحية». تختلف نبرته حين تسأله عن دمشق. يتنهد ويصمت طويلاً، قبل أن تطفر الدمعة من عينه، مصحوبةً بغصّة. «ما عاد فينا نحكي عن دمشق. أي دمشق؟ دمشق التراب الذي عجن بدماء ألف امرأة وألف طفل؟ أين هي دمشق؟ ماذا نفعل؟ كأنّ في ذلك قدراً ما. كأنّه كتب على السوريين أن يتشردوا. كلّما انهمرت نقطة مطر، أفكر بالسوريين الذين يبيتون ليلتهم من دون سقف».

هو الدمشقي الأصيل، ابن الشاغور الحالم. خاض غمار حياته، وهو يستلهم قول عيسى الناصري: «ما نفعك أن تكسب العالم كلّه، لو خسرت نفسك». أوّل من دلّه على طريق التمثيل، كان الفنان الراحل يوسف حنا، الصديق والشريك صاحب الأثر الكبير في حياة الصباغ. «تعلمت منه أن أتعامل مع المهنة باحترام شديد وخوف مطلق. تعلمت منه كيف أثابر دوماً للمشاركة بصناعة فن جيد ذي قيمة. كان يقول لي، «التمثيل سهل، والصعب هو العمل على الأداء لرفع سوية التمثيل». ربطته بالممثل الراحل شراكة في الحياة والفنّ استمرت 22 عاماً، بدأت بين يوسف حنا النجم، وعبد الهادي الصباغ الكومبارس، قبل أن يخطو الأخير سلّم النجوميّة. «عملنا لستة أشهر على نص «عطيل يعود» لكازانتزاكي، جرّبنا خلالها طرقا وضعها ستانسلافسكي في الأداء، لكننا لم نقدّم العمل في النهاية. إذ أتاني عرض للعمل في مسرحية «غربة» (1976)، مع الفنان دريد لحام، فطلب مني يوسف بغيريّة مطلقة، ترك العمل معه، والانضمام لفريق عمل «غربة»، لأنّه رأى فيها فرصةً ممتازة لي كممثل. وبالفعل، شكّل ذلك تحوّلاً مفصلياً في حياتي».

يفهم الصباغ الحياة رحلةً من الولادة إلى الموت، رحلة أشبه بالحلم. أدرك الصباغ صعوبة تلك الرحلة منذ صغر سنّه، بعد وفاة والده وهو في الرابعة عشرة. «ترى شبابك وصباك فتظنّ أن حياتك أزلية، لكن من المؤكّد أنّها زائلة». أمّا الزواج، فهو في فهمه «مؤسسة شراكة إنسانية»، قد تحدّ من الحريّة، لهذا لم تخلُ علاقته الزوجيّة من بعض التوترات. «أنا إنسان فوضوي أكره القيود، ولا أحب التخطيط والتنظيم».

بعد رحيل صديقه المقرّب، ووالده، فارقته والدته، وهو في الأربعين. كان رفيقها الدائم، لهذا شعر بعد رحيلها، بأنّ وحدته اكتملت. لكنّ الوحدة لم تكن شعوراً مستجداً عليه. «كنت طفلاً وحيداً، أبعدني عن الآخرين خوف ما، كنت أجلس بعيداً عن الأطفال في باحة المدرسة، ربما لشعوري بأنهم أقوى مني». واستمر الوضع على تلك الحال، إلى أن اهتدى صوب الرياضة، وحقق بطولات. «منحتني الرياضة ثقة كبيرة بنفسي، فأصبحت أكثر حباً للمدرسة، وأكثر اختلاطاً بالآخرين».

كانت أولى محاولاته للتمثيل في الصف الثالث الابتدائي، متأثراً بأخيه الأكبر، الذي مثّل على المسرح. عمل في التلفزيون في «برنامج الشباب»، قدّم فيه مشاهد على الهواء مباشرة، مقلداً تشارلي شابلن. درس الفلسفة في «جامعة دمشق» لسنة واحدة، وتركها بعد قبوله في معهد السينما في مدينة لوند السويدّية، حيث كان يدرّس إنغمار برغمان. لكنّه لم يسافر، بسبب ظروفه العائلية بعد وفاة الوالد. التحق بخدمة العلم الإلزامية، ليكتشف هناك معنىً آخر للحياة، حين وجد نفسه على جبهة الحرب خلال العام 1973. في السنة نفسها، قدّم أوّل عمل له كمحترف على المسرح العسكري، «ليلة مصرع غيفارا العظيم»، عن نصّ ميخائيل رومان، إعداد ممدوح عدوان، إخراج حسن عويتي. عمل بعدها في عدة أفلام سينمائية أولها «كفر قاسم» للسينمائي برهان علويّة (1974) ومن ثم «الاتجاه المعاكس» (1975) للسينمائي مروان حداد. رغم ذلك، لم يجد له مكاناً على الشاشة الصغيرة، وكانت مسيرته في هذه المضمار، مليئة بالصعوبات، كأنّها كوميديا سوداء، حاله حال ملهمه الأول تشارلي شابلن. «عملت لفترة من الزمن كومبارس، في عدة مسلسلات حتى أنهم في إحدى المرات ألبسوني ثياب جندي روماني، وحمّلوني رمحاً وبقيت واقفاً طوال النهار أصور، ولكن حين عرض المسلسل لم أجد نفسي أبداً». دخل التلفزيون لأول مرة كبطل في سهرة تلفزيونية من إخراج هاني الروماني، ليعرض عليه بعدها المخرج غسان جبري أداء مشهد واحد فقط في مسلسله «الدولاب»... ثمّ كرّت السبحة. وبعد ما يقارب الأربعة عقود، راكم عبد الهادي الصباغ مسيرة غنيّة، ملأتها الأحلام والآلام، واستطاع صناعة اسم مميز في الدراما السورية. «حياتي الفنية كانت طريقاً طويلاً من القراءة والمراقبة، والتجريب، والتفكير، لخلق ما يمكن أن يكون جديداً في الفن. كانت مسيرة بحث دائم للمعرفة والفهم».

دخل الصباغ أيضاً معترك الإنتاج التلفزيوني بقوة لينتج مجموعة من أهم الأعمال في الدراما السورية من «نساء صغيرات» (1999)، و«أسرار المدينة» (2000)، وصولاً لـ «يوم ممطر آخر» (2008)، و«تخت شرقي» (2010). «فكرنا بدخول مضمار الإنتاج يوسف حنا وأنا، حين اكتشفنا متعتنا في انتقاء ورق نحبه، ويتضمن قناعاتنا. لهذا، امتازت الأعمال بأنّ المنحى الوجداني، حاضر فيها. حاضر بقوّة». كما يستمتع باختيار النصوص، يحبّ البحث عن المخرج المناسب، ويستمتع باختيار الممثلين. «يقول عني المخرج هيثم حقي بأنني أفضل من قام بـ «الكاستنغ» في سوريا».

الخيارات الوجدانيّة، لا تحكم معاييره في انتقاء النصوص فحسب، بل تنعكس على مناحٍ عديدة من حياته. «أنا كائن ليلي أستمتع بصحبة الأصدقاء آخر الليل، حيث تتسع حالة الوجدان». هو عاطفي أيضاً، لم تغيّر قسوة الحياة من قدرته على التسامح. «العمر قصير جداً والإنسان ضعيف فيه، يكفي أن ترى الموت المفاجئ، والأمراض، والجوع، والظلم، حتى تمتنع عن الإساءة للآخرين. قدرنا يكفينا، فلمَ نقسو على بعضنا البعض كبشر؟»