2012/07/04

عرش الطرب يتحول إلى هؤلاء.
عرش الطرب يتحول إلى هؤلاء.

بعد عمر طويل!.. عرش الطرب يتحول إلى هؤلاء.

إن سياسة (قوم وأنا أقعد مطرحك) هي السائدة في العالم الفني منذ أجيال.. فما من فنان كبير إلا وهناك فنان صغير آخر يقف خلفه وينتظر زواله حتى يحل مكانه.. وقد استطاع كثيرون من الفنانين الناشئين والجدد في العالم الفني أن يزيحوا من الطريق فنانين كبار وينتزعوا منهم عروشهم الفنية الذهبية.

بعد أم كلثوم فإن أم كلثوم عندما بدأت تغني في الأفراح والموالد، وتضع على رأسها غطاء أبيض لم تستطع في بداية الأمر أن تزيح من الطريق كبيرة مطربات الشرق في ذلك الحين السيدة منيرة المهدية.. فقد كانت منيرة تتربع على عرش قوي متين، وكان أكبر وأضخم باشوات مصر ووزرائها ينحنون على يدها لتقبيلها، حتى وصل الإعجاب بهذه المطربة إلى حد أن مجلس الوزراء المصري كان ينعقد في غرفتها بالمسرح الذي تغني فيه.. وبينما منيرة المهدية في القمة أخذت أم كلثوم تزحف إلى أسماع الشرق العربي شيئاً فشيئاً! ورأى الكثيرون من سادة الفن وأقطاب الموسيقى أنهم أمام حنجرة فنية نادرة المثيل وأنهم لو تعهدوها بالصقل والتربية لاستطاعوا أن يطردوا صوت منيرة المهدية من أذن الجماهير المجنونة بها.. وهكذا كان وأحيطت بأم كلثوم شلة من الموسيقيين الكبار تعاونت مع شخصيات سياسية معروفة، وتمكن الجميع أن يؤمنوا الشهرة السريعة لأم كلثوم ويجعلوا عرش الطرب يحترق تحت منيرة المهدية. وقد استطاعت مطربة الشرق الأولى من خلال الثلاثين عاماً أن تحافظ على روعة فنها، وقوة شخصيتها، ومظاهر سيطرتها، فلم تتبذل في أغنياتها ولا اختلطت بمن لا يتفق مستواهم الشخصي والمعنوي مع مستواها!.. إلا أن العرش يهتز الآن تحت أم كلثوم.. وهناك أكثر من سبب يجعل هذه المطربة تفكر باعتزال الغناء أسوة بمنيرة المهدية، مع فارق واحد بينهما، هو أن منيرة اعتزلت وجيوبها خالية إلا من ملاليم، بينما أم كلثوم لو فكرت في الاعتزال فإن بين يديها ثروة ضخمة لا تنضب بسهولة.

وطبيعي أن يهيئ الناس المطربة الجديدة التي ستحتل عرش الطرب وتخلف أم كلثوم عليه.. وتتجه الأنظار إلى سعاد محمد لأنها الوحيدة بين فنانات الشرق العربي التي تملك صوتاً من ذهب، والتي تصل حنجرتها في الغناء إلى أعلى المقامات الموسيقية.. فإن سعاد محمد مثل أم كلثوم تغني ساعة وساعتين على المسرح دون أن تتعب حنجرتها أو تصاب بالوهن، بل إن سعاد محمد تمتاز عن غيرها من المطربات بأنها كلما غنت ازدادت حلاوة صوتها وظهرت روعته.. ولكن، هل بوسع سعاد محمد أن تملأ العرش الغنائي الذي قد يخلو يوماً باعتزال أم كلثوم بداعي المرض أو التقدم في السن؟ إن أم كلثوم لم تصل على مكانتها الفنية الرفيعة في الشرق العربي عن طريق صوتها الذهبي فقط، بل وصلت أيضاً بفضل ذكائها النادر وظرفها المشهور، وذهنها الوقاد.. فهل تملك سعاد محمد هذه الموهبة، وهي الشابة التي لم يتح لها أن تخرج إلى المجتمع، بل كانت حياتها سلسلة من المتاعب والمفاجآت.. إن الزمن وحده كفيل بأن يجعل مطربة لبنان السمراء ترث عن أم كلثوم مزاياها الشخصية النادرة، خصوصاً وأن سعاد محمد تملك رصيداً لا بأس به من الظرف والذكاء في الوقت الحاضر.. وثمة مطربة ثانية يرشحها البعض لملئ الفراغ الذي قد تتركه أم كلثوم إذا اعتزلت الطرب أو بعد عمر طويل،

وهذه المطربة هي نجاة الصغيرة التي تعتبر صورة مصغرة عن أم كلثوم سواء بطريقة غنائها أم بحفظها السريع لكل لحن، أو بوقفتها على المسرح وعصر المنديل بين يديها عصراً! وقد غنت نجاة الصغيرة على المسرح يوم كانت في التاسعة من عمرها وأحاطت بها نفس الشلة التي أحاطت بأم كلثوم عندما كانت طفلة ووفرت لها الشهرة والمجد! وقامت مصر ولم تقعد عندما كتب الأستاذ فكري أباظة، وهو أحد المشهورين الذين اعتمدت عليهم أم كلثوم في بداية عهدها في الغناء، عندما كتب يقول أن نجاة الصغيرة ذكرته بطفولة أم كلثوم!. إن نجاة قد تكون خليفة أم كلثوم، ولكن المشكلة أن هناك فرق شاسع بين حنجرة أم كلثوم وحنجرة نجاة.   خليفة أسمهان وقد كانت أسمهان، صاحبة الصوت المسحور، صاحبة مدرسة خاصة في عالم الغناء العربي، وكان لهذه المدرسة عشاق ومحبون يفضلونها على مدرسة أم كلثوم.. إلا أن القدر الظالم لم يشأ أن يمهل أسمهان فاختطفها من هذه الدنيا بعد أن ملأت الأسماع شدواً وطرباً، وكان منتظراً أن تبرز بين المطربات من تسارع إلى احتلال مكانتها، إلا أن هذا لم يحدث أبداً، فظل مكانها شاغراً إلى أن ظهرت المطربة الرائعة الصوت فيروز وملأت الدنيا بصوتها العميق الحالم الذي تحيط به هالة من موسيقى وسحر وشاعرية.. وبقدر ما أحب الناس أسمهان أحبوا فيروز لأن في كل أغنية من أغنياتها أجواء ممتعة ولأنها تغني بقلبها وإحساسها وخيالها أكثر مما تغني بحنجرتها.. وإذا كان صوت أم كلثوم يأخذ العقل ويبهر السمع، فإن صوت فيروز يهز القلوب ويملأها بالطرب والنشوة حتى أن المرء يلتصق بجهاز الراديو عندما يسمعها ويظل يطلب المزيد، من هذا السحر المتدفق الذي يسمونه غناء، ولو أنصفوا لسموه غذاء روحياً.. وعندما تسمع أم كلثوم تحس بالإعجاز الفني، وتراها أشبه بجبل شامخ عال، ولكن عندما تسمع فيروز تحس بأنك أمام جدول صغير جميل تنساب مياهه بهدوء وروعة.. وكثيرون يفضلون رؤية الجدول الصغير الهادئ على الجبال الشامخة،

ومن هنا تكاثر أنصار فيروز وعشاق فنها وصوتها حتى أصبحت المطربة التي تملك مدرسة صوتية وغنائية مستقلة كالتي كانت تملكها أسمهان!.   عرش عبد الوهاب وبقي الموسيقار الكبير عبد الوهاب!. عندما كان عبد الوهاب يجلس في النهار وراء ماكينة خياطة في حي باب الشعرية ويمارس عملية رتق الجيوب الممزقة في دكان رتا معروف في ذلك الحي، كان يسيطر على عالم الغناء أربعة أو خمسة من مشاهير الطرب الشرقي مثل سيد درويش وصالح عبد الحي وغيرهما.. وكان عبد الوهاب ذكياً فلم يحاول أن ينافس هؤلاء المطربين بنفس بضاعتهم، بل ابتدع لنفسه بضاعة غنائية وموسيقية خاصة به!. ولاقت هذه البضاعة هوى في نفوس الجماهير لأنها تجمع بين روعة الغناء الشرقي القديم ومتعة الغناء الحديث، فأقبلوا عليها ونسوا صالح وعبد الحي وسلامة حجازي وسيد درويش وكل من رفع عقيرته بالغناء في الشرق العربي.. وتربع عبد الوهاب على عرش الطرب العربي إلى جانب أم كلثوم، وما زال حتى الآن الموسيقار الموهوب الذي يرسم اتجاهات الموسيقى الشرقية ويحدد معالم الطريق لها!. ولكن الموسيقار الكبير يعرف أنه لن يخلد في هذه الدنيا، ولا بد أن يهيئ منذ الآن مطرباً آخر يرث عنه العرش الذي تعب كثيراً حتى تربع عليه!.

ويبدو أن عبد الوهاب مقتنع تمام الاقتناع بأن عبد الحليم حافظ هو الوريث الطبيعي لعرشه، لأنه يملك صوتا حالماً فيه الكثير من مزايا صوت عبد الوهاب، ولذلك فهو يمسك بيده ويحاول أن يدفعه إلى الصفوف الفنية الأولى.. ولكن العقبة الوحيدة التي تقف في وجه وصول عبد الحليم إلى عرش الطرب هو أنه ليس ملحناً..

وعلى هذا بات منتظراً أن يتحول بعد سنة أو سنتين إلى التلحين أيضاً حتى يتمكن من أن يكون خليفة لعبد الوهاب.. وهكذا نرى أن فيروز قد ورثت عرش أسمهان، وأن سعاد محمد وعبد الحليم حافظ سوف يرثان عرشا أم كلثوم وعبد الوهاب بعد عمر طويل. وستظل سياسة (قوم وأنا أقعد مطرحك) سائدة في الوسط الفني ما دامت النساء تلد وتنجب!. الموعد شباط 1956.