2015/07/16

مكسيم خليل بدور جابر في مشهد من العمل
مكسيم خليل بدور جابر في مشهد من العمل

السفير - سامر محمد اسماعيل

حسم مسلسل «غداً نلتقي» الجدل حول مصير الدراما السورية في المنفى. العمل الذي كتبه الممثِّل إياد أبو الشامات جنباً إلى جنب مع مخرج العمل رامي حنا، كان في تصوّره الأوّل ما قبل الحرب، معدّاً لتصوير عشوائيّات وأحزمة الفقر حول دمشق في صيغته. لكنّه انتقل إلى مدرسة مهدّمة في مدينة جبيل، لتكون بقايا أبنية الحرب الأهلية اللبنانية، بمثابة أستوديو وشاهد على حكايات متشابكة لمجموعة من العائلات السورية اللاجئة هناك.
لم يلفّق «غداً نلتقي» أمكنة سورية ادعى أن أحداثه وشخصياته تعيش فيها، كحال بعض الأعمال التي صُوّرت خارج البلاد، وتصرّ على إقناع المشاهد أنّ ما يراه على الشاشة هو أحداث تجري في دمشق أو اللاذقية أو حمص؛ بل آثر المسلسل المقاربة الواقعية لحال النازحين السوريين، من دون الاتكاء على المباشرة الفنية لبعض الأعمال المصوّرة في الداخل.
انتعشت حبكات عديدة في هذا المسلسل ليكون أبرزها تلك المواجهة الصادمة بين محمود (عبد المنعم عمايري)، وجابر (مكسيم خليل) الشقيقين المختلفين سياسياً بين معارض وموالٍ، واللذين يقعان في حبّ وردة (كاريس بشار) العاملة في تغسيل الموتى. فبين الشاعر والروائي و «العاشق السيئ الحظ» الذي يضيع مخطوط روايته في سيارة الأجرة، وشقيقه الشاب الذي يعمل في بيع الأقراص المدمجة للأفلام في شوارع بيروت.
أخذتنا القصة المكتوبة بحرفية عالية إلى عميق الجرح السوري عبر حوارات عامرة بالسخرية والمرارة. شخصيّات تحركت في كوادر رامي حنا مبرمةً أكثر من مستوى لقراءة المأساة في مكان معتم ورطب، لكنه رحب من حيث قدرة الكاميرا على تلوينه بهدوء من دون تلك اللقطات المنقبضة والخانقة. كانت الكاميرا تمرِّر ذلك الحصار النفسي الذي تعيشه الشخصيات، من دون أن تنتصر للكراهية الناتجة عن الظروف السياسيّة، بل بالنظر إلى الدراما التلفزيونية كخطاب همّه الوحيد هو القول بالمصير السوري المشترك.
تلك الموهبة لدى مخرج المسلسل ببلوغ ما هو أقرب إلى حفيف الصور، جنباً إلى جنب مع موسيقى أنيقة ألّفها الفنان فادي مارديني، وضعتنا على مسافة واحدة من كل الأطراف، لنطل على أسرة أبو عبدو (عبد الهادي صباغ)، وزوجته ضحى الدبس، وملابسات وقوع ابنهما ضحية التجنيد في صفوف «داعش».
محاولة جريئة من حيث جدتها وقدرتها على فهم الفارق بين الواقع الموضوعي والواقع الفني، وإدارتها لصراعات الآباء والأبناء من دون تنميطها. نرى ذلك في شخصية أبو ليلى (تيسير إدريس) الفلسطيني الغارق بذكرياته عن حروب مع دبابة الميركافا الإسرائيلية في «مثلث غزة»، وبين ما آلت إليه حاله في سهرات القمار والكحول، كإشارة قوية إلى حال الفلسطينيين في الحرب السورية، وانعدام الأمل وتهالكه. في حين نرى شخصية ابنه غيفارا (جابر جوخدار ) على نقيض من حال الأب، فالشاب الذي يعمل مع فرقة فنون شعبية فلسطينية للسفر بها إلى مهرجان للرقص في ألمانيا، يسعى بكامل قوته إلى نقل صورة مغايرة للأخطاء التي وقع فيها جيل الآباء. في المقلب الآخر تابعنا قصة خلود (ناظلي الرواس)، وزوجها الثاني إيهاب (فادي صبيح) الذي استطاع أن ينخرط بالكامل في واقع الحرب وبشاعتها، بعد العمل مع مافيات الخطف والسطو المسلح.
لا أنفاس نلتقطها ولا وضوح نهائيا وحاسما بين الضحية والجلاد، بين المحافظ والعلماني، بين الوطني والخائن، لقد جعل كل من كاتب ومخرج «غداً نلتقي» الصراع في ذروات متعددة، متقلّب ورشيق ومنساب بين كل الشخصيات.
ومع أن المادة تصر على حياديتها وعلى أن تكون لسان حال الحرب وتبعاتها، لكنها لا تلبث أن تضع الجميع تحت ضوء الكارثة، في المصائر التي تنتهي إليها شخصيات العمل بالهجرة أو الموت أو التطرّف أو الغرق في قاع البحار. مفارقات ذكية من دون مبالغات في الأداء، أو محاولة لي عنق الأحداث لتكون جذابة وملحة، بل هو التأكيد على فداحة العواقب الإنسانية عبر حساسية بصرية لافتة، لا يمكن تجاوزها في اشتغالات الدراما السورية، وقدرتها على أن تكون وثيقة حرب عن شعب واحد في جحيمين.