2012/07/04

فرقنا الفنية بين التقليد والإبداع
فرقنا الفنية بين التقليد والإبداع


إياد فايز مرشد - البعث


على مدى عقود شكلت الموسيقا والغناء العربي الذي أنجز منذ أربعينيات القرن الماضي حتى أواخر الثمانينيات، إرثاً فنياً وثقافياً لا يمكن لأي فنان مهما بلغت عبقريته أن يتجاوزه، وألا يتوقف عنده، ويغرف من بحوره، وينهل من معين تفرده وأصالته، وكلنا، وعلى الرغم من البعد الزماني وتوالي الأجيال، ما زلنا نرى فيه الفن الأكثر قرباً من أرواحنا، والذي نسكن إليه من النشاز الفني السائد حالياً الذي يخرب أذواقنا ومسامعنا.

لكننا لو تابعنا الحفلات الفنية التي تقدم على المسارح ودور العرض المحلية، سنشعر بالضيق والملل، ونصاب بالضجر من كثرة التقليد الأعمى لإبداعات قديمة نكررها منذ سنوات، ونعيد توليفها بقوالب مختلفة دون أن نجعل منها ركيزة لإبداعات وأعمال فنية جديدة، تحمل خصوصية مميزة وسمات الزمن الذي نحياه.

وفيما ساحتنا الثقافية والفنية تعج بعشرات الفرق الفنية الشرقية والغربية التي تقدم الموسيقا والغناء والتراث بأشكاله المختلفة، إلا أن هذه الفرق، (في غالبيتها)، لا تزال تستسهل العمل، وتتكىء على هذا الموروث الفني، فالفرق الفلكلورية تأخذ الفقرات التراثية وتعيد تقديمها بتغيير شكلي فقط في الأزياء أو بطريقة توزيع الموسيقا، وقليلة هي الحالات التي اتخذت المادة التراثية منطلقاً لإبداع فن جديد مختلف عما رأيناه سابقاً، وتكاد تكون بعض الفقرات أو الأغاني أو المونولوجات أو الرقصات قاسماً مشتركاً بين عشرات العروض لفرق مختلفة.

وكثير من الفرق الموسيقية الشرقية الموجودة الآن، (رقص أو غناء أو عزف)، لم يتجاوز اهتمامها سوى أداء أغانينا وموسيقانا التي ألفنا سماعها لسنوات، والتي لا تزال تعيش في ذواتنا بأسلوب ونكهة مبدعيها الأصليين، أما الفرق المحلية التي تختص بالموسيقا الغربية (والتي انتشرت مؤخراً)، فالمجال أمامها واسع لتغرف من الفنون الغربية دون حدود، وكل ما يتطلبه الأمر إجادة لغة أجنبية، ونقل الحركات والصرخات على المسرح تقليداً لما يقدمه الفنانون في الغرب.

نحن هنا لا ننتقد الماضي والتراث الفني العريق الذي نعتز به، بل نتأفف من هذه الرتابة في حياتنا الفنية، ونتساءل: هل من كانوا قبلنا توفرت لهم الظروف وتهيأت لهم الأسباب لإنجاز أشكال فنية جديدة، وموسيقا عظيمة وخالدة؟!.. ولماذا نظل نراوح مكاننا، ونعجز عن الاستفادة من الإمكانيات المادية والتقنية الكبيرة المتوافرة لدينا، فيما تمكن جيل الرواد من فنانين وموسيقيين وملحنين من اختراق حدود الرتابة، وتقديم إبداعات خالدة على الرغم من الظروف الفنية الصعبة للإنتاج الفني، وتخلّف وسائط التكنولوجيا، ويمتد هذا التكلس والجمود إلى المسرح، وعلى الرغم من استمتاعي بعرض شكسبيري أو بعرض مأخوذ من المسرح العالمي يقدم هنا أو هناك، لكنني أرفض أن أظل أسير هذه العروض مدى العمر؟!.. فأين هي النصوص المسرحية الجديدة التي تعرض على مسارحنا، وتنتشلنا من الغفوة والتململ، والتي يجب أن تنضح بالحياة كما نعيشها؟! فنحن لم نر منذ زمن طويل سوى عروض مقتبسة من نصوص مسرحية عالمية، تعاد صياغة نصوصها بسويات مختلفة لتناسب متطلبات العرض المسرحي أو رغبات الجمهور، مع حاجتنا الماسة إلى مسرح يستمد كل عناصره من حياتنا، وكل حواراته منسوجة من واقعنا، وكل آماله من أحلامنا، ألم يتألق ويسطع نجم المسرحي الكبير الراحل سعد الله ونوس، لأنه انطلق من واقع مجتمعنا، ومن همومنا، ومن تطلعاتنا نحو المستقبل؟!.

إننا لا نرفض التقليد (الذي يمكن أن يكون مرحلة أولى في الطريق الفني، والتي يمر بها الفنان أو الفرقة الفنية)، والاتكاء على التراث، والاقتباس من روائع الغرب أو الشرق، ولكننا نرفض أن نبقى في هذه الدوامة من الإنتاج الفني إلى الأبد، وإذ ننشد إبداعاً جديداً، فنحن نتطلع إلى ما يليق بعصرنا وبإنسانيتنا، وما يليق بما تحقق من تطور ثقافي وفكري في بنية مجتمعنا وآليات تفكيره، وبما امتلكناه على مدى عقود من كوادر كبيرة ومتميزة خريجة المعاهد المتوسطة والعالية للفنون والموسيقا والدراما، والتي لا تزال تحث الخطا نحو بناء تجاربها الفنية الخاصة، وبما أتيح لنا من قدرات للتواصل والاستفادة من تجارب الآخرين.

ما أقوله ليس تقليلاً من حجم ما يقدم، إنما دعوة للإبداع وللخروج من محاكاة الماضي الذي نحبه، والذي أحب أن أتذوقه من مصادره الأساسية، ومن مبدعيه الحقيقيين، ورغبة في الابتعاد عن استنساخ تجارب الآخرين.

لقد استطاع صباح فخري مثلاً أن يشق طريقه في زمن عمالقة الفن، وغدا واحداً منهم لأنه اختار منذ البداية لونه الخاص، وكذلك فعل نجيب السراج، وغيرهما كثر من مبدعينا في مجال الموسيقا والمسرح والغناء.. إننا نتطلع لسماع نغمات جديدة، ونريد مقطوعات موسيقية يؤلفها موسيقيون نعايشهم ويعايشوننا، ونريد أغاني تنطق بمشاعرنا، نريد مسرحاً معجونة حبكته من خليط أرقنا وأعصابنا.

إن الإبداع خروج عن المألوف، وإعادة تشكيل للرؤى والوقائع والأفكار، والفن ما هو إلا خلق جديد، وتحليق نحو استكناه مختلف للحياة، وغوص أو سبر لمكنونات النفس البشرية في رحلتها نحو الانعتاق من الاستسهال، فلنشجع الإبداع والمبدعين، ولنفتح لهم المجال ليحققوا أنفسهم، لأن الوطن لا يكبر إلا بمبدعيه، ولا يعيش إلا بجهودهم.