2017/03/31

بوسطة - بشار عباس 

-3-

اوفر - آكتينغ يوماً، اوفر - آكتينغ في كلّ يوم.

ما أقوله ليس دعوة إلى إلغاء المسرح في البلاد - رغم انّ القائمين عليه لا ينفكّون عن هذه المحاولة آناء الليل وأطراف النّهار  - فمن حقّه أن يعيش، وذلك أسوة – مثلاً - برياضتي المبارزة وركوب الخيل، الرياضتان يمارسهما الكثير من اللاعبين حول العالم، وقد تسمع عن قواعد وتاريخ عريق لكلّ منهما، لجان تحكيم وبطولات وكتب ومنشورات ونقاشات، يحقّ للإنسان أن يحنّ للماضي ما شاء إلى ذلك سبيلا، ما أقوله هو: يجب الّا نستعمل المبارزة وركوب الخيل في الحروب الآن فلم تعد ايّ منهما تصلح.  

بالعودة إلى الموضوع: إنّ المؤدّي على الخشبة محكوم بدكتاتوريّة المسافة بينه وبين الجهور،

 قد يتوفّر للنّسق الأوّل منه ان يكون على مقربة  من مُجريات الأمور، ولكّن خمسة أمتار أو سبعة أو عشرة لم تزل بعيدة، والممثّل ليس قريباُ بما يكفيه ليؤدّي على نحو طبيعي، يجب أن يُبالغ، يجب أن يُراعي أرجاء الصالة كافّة، عشرات الامتار قد تفصل نظرة الذّهول، الحزن، الفرح التي على وجهه وعينيه عن صفوف عديدة من المقاعد، ولانّه حريص على أن يصل للجميع، فإنّ المبالغة Overacting تكون سيدة الفعل الدرامي على الخشبة، وهي إذا بقيت هنالك، حيث يُشاهدها عشرات او مئات من الجمهور فليس من مشكلة، ولكنّها بفضل هيمنة الأداء المسرحي على الاداء في الشاشتين – الكبيرة والصّغيرة – فإنّها تُعتبر سمة واضحة في الفيلم والمسلسل التلفزيوني المحلّيين.

إنّ الفروق بين الأداء امام الكاميرا، وبين الأداء المسرحي شتّى؛ الكاميرا كعين للجمهور قريبة وتلتقط ما لا يلتقطه هذا الجمهور في الحياة الواقعيّة نفسها، أي أنّه أقرب من الواقع، ذلك أحد أسباب نشوء ظاهرة النّجوميّة: نرى الممثل أو الممثلة بأقرب مما نرى معارفنا واقاربنا، في شاشة السّينما قد يتضخّم الوجه ليأخذ امتار مربّعة، وحتّى على الشاشة الصّغيرة كثيراً ما نراه أقرب وأكبر مما نراه في الواقع؛ كما أنّ ال "بووم مايك" قريب على بعد سنتيمترات يلتقط كلّ مضمون شعوري تحمله الامواج الصّوتيّة، إن ممثّل الكاميرا سوف يُعتبر مبالِغاً في الاداء إذا أدّى كما يفعل في الواقع نفسه، ولذلك يكون أكثر هدوءاً وانضباطا واقتصادا في الحركات مما هو في الحياة العاديّة؛ ويكون للعينين وما حولهما بقليل الدور الحاسم في نقل مشاعره، ذلك أنّ الدّماغ البشري مصمّم لدراسة هذه المشاعر، قد تُشعرك لمعة العين، او تشنّج بسيط لما حولها بان القائل يكذب، او يضحك مجاملةً، رجفة صغيرة أو اضطراب في الصوت ينقل لك مشاعر لا تُحصى، وتلك إذا زادت عن حدّها فليست المشكلة فقط في أننا لا نعود نصدّق ما نرى ونندمج، بل في مسالة أهم: الشخصيّة يعلم انّه شخصيّة، فينهار الشّرط الدّرامي كون الشخصيّة تحرص على إيصال الأداء والصّوت إلى الجمهور، فهي واعية بوجوده.

على الخشبة تتحوّل الابتسامة العادية إلى قناع تهريجي من شدّة المبالغة، يجب أن يراها الجميع، النظرة الحزينة تُصبح فجائعية، وقليل من الغضب يغدو وجها مرعبا، تناول الطّعام بشهيّة يظهر كالافتراس.

إنه للتّمييز بين ممثّل الكاميرا، وممثل الخشبة أن نستذكر ممثلَين سوريين اثنين كمثال لذلك، في تميز بين أدائهما وأداء الكثيرين: إنّهما خالد تاجا، وبسّام كوسا؛ الجمهور غير المتخصّص في الدّراما يشعر بتميّزهما، ففي أداء كلّ منهما العيون تبتسم او تغضب أو تحزن أو تختال كما يجب، بهدوء، الأداء الصّوتي ينقل المشاعر كما يينبغي، في مراعاة أن الجمهور قريب جدّاً، التّأثير الاندماجي الانفعالي يتخذ موقف من الكاميرا – عين الجمهور – إمّا بالتّجاهل التام، او الأخذ بالحسبان دون اكتراث، او الازدراء والتّعالي، القول أنّ بسام كوسا هو ممثل جيّد هو قول غير دقيق، يجب أن يكون هكذا: إنّ بسّام كوسا ممثل كاميرا كما ينبغي بممثل الكاميرا أن يكون، وهناك بالطّبع قلّة من الممثلين المحليين – أقل من أصابع اليد الواحدة – مستواهم جيّد امام الكاميرا، ولكنّ تناول الاسمين السّابقين كان على مستوى الذّكر وليس الحصر، للتبيان والتّوضيح.

ليس في البلاد تخصّص في دراسة الأداء أمام الكاميرا، معايير الأداء يفرضها التمثيل المسرحي؛ إنّ ممثلاً قادماً من المسرح قد يعطي نتائج أمام الكاميرا اقل بكثير من النتائج التي قد يعطيها ممثل يجرّب التّمثيل للمرّة الأولى، وبما أنّ الخطأ الشّائع صواب، فقد استشرى الأداء المسرحي، وانتقل إلى الشاشتين، ولم يعد من السهل بمكان تمييز من هو ممثل الشاشة الجيد؛ هناك شعور عام بأنّ التمثيل مختلف وأفضل عند مشاهدة فيلم هوليودي، أو هندي، ولكن لماذا ؟ لا نستطيع التّحديد، هو مختلف وحسب !

اليوم لا نعلم من الذّي قال "أعطني مسرحاً أعطيك شعبا عظيماً" هل هو شكسبير، موليير، ستانيسلافسكي؛ بجميع الأحوال: تحتاج هذه الجملة إلى تصويب لتصبح هكذا: أعطني مسرحاً اعطيك شعباً عظيماً في "الاوفرة"، وفي المبالغة، في الافراط  في رفع الصّوت، في الافراط الزائد عن الحدّ عند التعبير بدون مخزون شعوري مؤاتي؛ في تعمّد حبّ الظّهور والتصرّف لجذب النّظر، ليس اسوأ من المسرح في تربية الجمهور: لو اقتصر الأمر على الخشبة لبقي خطر ذلك محدوداً، ولكن ها هو على الشاشة، فالمصاب جلل ومعمّم، والنّتائج الكارثيّة لذلك واضحة في الآفاق وفي أنفسهم.

 ولكن هل المبالغة مقتصرة فقط على الأداء ؟ ليتها كانت كذلك، إنّها ممتدّة إلى العقليّة الّتي تكتب للدّراما المحليّة؛ لانّها مُصابة بالمسرح فإنّها تعتمد على القصص الّتي تقع في حيّز محدّد، فالخشبة ليست بالمكان الطبيعي للقصّة، ومن هنا تأتي ظاهرة المبالغة في الفعل الدّرامي بإحالته إلى الحوار، وذلك جرّاء تفشّي الثقافة التّنظيريّة المسرحية، وهي ظاهرة: القصّة المقيَّدة بسلاسل الخشبة، وهذا عنوان المقال التّالي.