2017/04/04

 بوسطة - بشار عباس

-5-

الفعل الدّرامي المعطوب بالحوار

-أ- استهلال:

"وصيّةٌ جديدة أنا أعطيكم؛ أحبّوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتتكم، بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي، إن كنتم تحبّون بعضكم بعضاً" يوحنا : 13- 34.

الكلمات السّابقة ربّما قد شكّلت تحدّياً لدافنشي، ومن المؤكّد أنّه قرأ جيّداً – إن لم يكن يحفظ – كلّ ما يتعلّق ب "العشاء الأخير" وهو على وشك البداية بعمله الذي أتمّه في 1498 ميلادي، المضمون الكلامي يفترض شرطاً صعباً في اللوحة؛ فهذه الوصيّة قالها المسيح في نفس المناسبة ضمن وصايا أُخرى عديدة، وهي المرحلة القصصية الذي تشكّل الذورة وبداية هبوط قوس الحبكة بعد أعلى ارتفاع، فالسّير إلى الجلجلة والصّلب صارا على مقربة، والنّهاية التّراجيديّة شرط - ضروري وليس كاف -  للبطل التّراجيديّ.

إذا كانت الوصيّة تطلب المساواة في المحبّة بين التّلاميذ، فحريٌ بدافنشي أن يفعل ذلك في لوحته، لا ريب أنّه لن يرسم أي من التلاميذ وهو يعطي ظهره للجمهور، أو: للعين الّتي ترى اللوحة، إخفاء وجه أي منهم نقيض – تشكيلي -  لتلك المساواة ، وفي نفس الوقت: إن رسمهم على نسق، بجانب معلّمهم سوف يبدو غير مبرر؛ إذْ كيف لأحدهم أن يخسر فرصة الجلوس قبالته؟ بل ويفضّل بدلاً عن هذه الفرصة أن يجلس على طرف جانبيّ بعيد في أقصى يمينه او يساره؟ ما الحلّ لذلك إذاً؟ المُراقب – الجمهور- محكوم بموضع واحد للمُشاهدة، وليس من الوارد رؤية بعض التّلاميذ يعطون ظهورهم لنا.

 

قبله بنحو من مائة عام، قام "دوسي" برسم أيقونه تُظهر التلاميذ يجلسون على صفّين، في الصفّ الذي يعطي ظهره للجمهور –  أو: مراقب اللوحة – يقوم الجالسون بالالتفات بالوجه ليظهر جانبياً – بروفايل – ولكن ذلك لم يحلّ المشكلة أيضاً، فالبروفايل يُظهر عين واحدة، وفيه سؤال لا بدّ أن يطرحه الرعية: لماذا لا نرى الجميع من نفس الموضع The position، وفي توضيح سريع للموضع، هو: مكان المُشاهد – الكاميرا – بالنّسبة للمنظور وفق علاقة الدرجات بمركز الدّائرة، إذا افترضنا ممثل يقف في مركز السّاعة، عند مركز الدائرة التي ترسمها العقارب في حركتها الدّائريّة، فإنّ شخص يراقبه من "موضع" الساعة السادسة، أو يقف عند الرقم 6 على السّاعة، يكون في "موضع" مختلف عن شخص واقف عند الساعة 3 ويراقبه، أو عند 9، وذلك بصرف النظر عن الاقتراب – المسافة – التي تفصله عنه، في اللوحة هناك موضع واحد وحيد بالنسبة للمنظور، وهي الجهة الافتراضية التي ينظر منها المتأمّل، وفي لوحة العشاء لأخير إذا كان الجميع يجلسون على نسق في مركز الساعة، فإن المراقب – نحنُ- في موضع قبالتهم عند الساعة 6.

 

 

إنّ الحركة الّتي تتضمّن عليها اللوحة، وإظهار الجميع في لحظة دراميّة متلألئة، وفي ذروة الفعل الدّرامي ربّما كان الحل: كل ثلاثة منهم – بصرف النّظر عمّا يُحكى عن أسرار اللوحة وثنائية يوحنا والمجدلية - ينشغلون بحديث، ويبدو أنهم يتناقلون الوصايا، أو يستفسرون عن أمر، فلا يخطر في ذهن متأمّل اللوحة أن لماذا لا يجلس أحدهم قبالته، وفي نفس الوقت يظهر المعلّم وعلى جانبيه كتلتي فراغ، وحيداً في ملكوت القصّة، وذلك بما يوافق كلامه الذي سوف يقوله في نفس المناسبة لأحدهم: إنّك في هذه الليلة قبل أن يصيح ديكٌ تنكرني ثلاث مرّات. متّى: 26- 34.

إذا كان الرسّام قد نجح في إخفاء معضلة الموضع الوحيد الّتي ينظر منه الجمهور، بإظهار جميع الشخصيات في اللوحة جالسة قبالة الجمهور – من يرى اللوحة – بتلك الطّريقة، فكيف يفعل المسرحيّون الذين يجلس جمهورهم – دائماً وأبداً – في موضع – جهة - واحد بالنّسبة للفعل الدّرامي؟ يُطرح هذا السّؤال على الجمهور سواء كان جالساً على نسق وأنساق قبالة الخشبة، أو متحلقاً حولها، في الاحتمال الأخير كلّ فرد من هذا الجمهور يرى من موضع واحد ثابت خاصّ به.

هذه المشكلة لا حلّ لها في المسرح، فما أن يعطي الممثل ظهره، أو جانبه، للجمهور حتّى يصبح قبالة جهة أخرى، ربما يحضر صوتياً، وبالأداء البدني – ليس الوجهي – غير أنه يجب أن يراعي ذلك، سواء كممثل، أو كمخرج قام بإدارة حركته على الخشبة، وهذا يُفسّر لماذا – غالباً – ما يحرص ممثلي المسرح على الوقوف قبالة الجمهور أثناء الأداء، على طريقة من يُريد أن يأخذ صورة.

مشكلة كهذه لم تكن موجودة في عصور ما قبل التاريخ المرئي المحفوظ اللالغوي؛ إنّ شخصاً يقرّر السّفر ألف كيلو متر على صهوة حصان إنّما يقوم بأمر طبيعي، وقد يفتخر به "أعزّ مكان في الدّنى سرج سابح" ولن يستنكره أحد، طبعاً إذا وقع ذلك في العصور الوسطى، أو عصور ما قبل انتشار وسائل النقل الحديثة، ولكنّه إذا قام بذلك الآن، فإنّه قد يتحوّل إلى خبر صحفي بسبب غرابة ما يقوم به، ويُمكن أن يحكي لك عن جماليّات هذا السّفر، عن الكثبان والنّجوم، وكيف يفتقد مسافر الطائرة جلسة بجانب نار مشتعلة، وفي كلامه ما هو صحيح، ولكنّ ذلك لا يُعفيه من حقيقة أنّه يُسافر بطريقة بائدة، لم تعد تصلح البتّة، ما السّبب؟ بسبب مقارنته فوراً ضمن نفس عائلة وسائط النّقل الحديثة المتوفّرة، فالإدراك البشري هو إدراك تمييزي.

إنّ جمهور المسرح يُشاهد الفعل الدّرامي The action من مسافة ثابتة، وزاوية ثابتة – ارتفاعه أو انخفاضه بالنسبة لمن يقوم بالفعل وهو هنا المؤدّي - وبطريقة معدومة الحركة بالنسبة إلى هذا الجمهور، ليس ما سبق فحسب، بل الأخطر من ذلك كلّه: من موضع واحد، وذلك كان مألوفاً – مثل السّفر على ظهر الحصان – في عصور ما قبل التاريخ المرئي المحفوظ اللالغوي، ولكنّ توفّر السارد البصري – بالكاميرا – والسارد التتابعي – بالمونتاج – جعل من فُرجة كهذه بائدة، غريبة الأطوار، منقطعة عن زمنها، وعن ذهنيّة جمهور هذا الزّمن.

إنّ السّرد القصصي اللغوي، ملفوظ كحكاية شفهيّة أو مكتوب – لا تعترضه تلك المشكلة، فخيال القارئ يستطيع اختيار أفضل الزوايا، والحركات، والمواضع، والمسافات التي يُشاهد منها الفعل الدّرامي – المسافة هي حجم اللقطة في الفيلم – وبهذه الميزة حافظت الرواية الأدبيّة على مجدها الفنّي، وهو ما يراعيه الكتّاب كثيراً، ولاحقاً سوف يراعيه الفيلم في إحياء للرواية، وسوف يظهر الفعل الدرامي أمام الكاميرا كما يجب.

إنّ الرواية كفنّ أدبي لم تتوقّف عن التطوّر في تاريخها؛ إذا كانت ملحمة "جلجامش" قديمة بالنّسبة لـ " قصّة مدينتين – تشارلز  ديكنز" فإنّه لا بدّ أن تكون هناك ملحمة – قديمة بالنسبة لملحمة جلجامش يفصل بينهما مقدار زمن قد يكون قريباً، ولكنّ المناوئة بين الرواية والمسرح لا تقوم في موضع مقارنة، كتلك المناوئة بين المسرح والفيلم، فالرواية مقروءة، والمسرحية "دراما" ، وهناك عامل أهمّ: الرواية هي شكل من أشكال الاتصال الجماهيري، وليس الشخصي، إنها تتجاوز الزمان والمكان، شأنها في ذلك شأن الفيلم، أمّا المسرح فهو فنّ اتصال لا جماهيري، أي: شخصي، بدائيّة هذا الأنموذج تجعله محصور بين قلّة من الجمهور، وبشرط توافرهم بشكل شخصي ومباشر مع العرض.

المقارنة بين المسرح والرواية إن كانت غير مبررة، ولا يقوم بها الذهن البشري، فإنّها تغدو ضروريّة ومبرّرة بين: المسرحيّة والفيلم الروائي؛ كلاهما دراما مرئيّة، وعليه يمكن افتراض تصنيف تاريخي لكلّ منهما: المسرح هو دراما ما قبل التّاريخ الفنّي الراهن، بينما مع الفيلم ندخل تاريخ جديد ومفارق لم يزل مستمرّاً، علامة التّمييز بين التّاريخين هي: كيف نشاهد الفعل الدّرامي The Action  والأهمّ: كيف تغدو "الدراما" أمام الكاميرا، عندما توضع على مقارنة مع الدراما البائدة في المسرح؟ تلك الدّراما الرجعيّة التّي تعود إلينا من عصور غابرة، فتخرج بعين واحدة دامية في منتصف الجبين، من ظلمات كواليس الخشبة.

الفعل الدّرامي The Action المقيّد بمسافة ثابتة – حجم لقطة ثابت – وزاوية ثابتة، وحركة معدومة، وموضع جامد، هو لاريب فعل درامي ناقص في تمثّلاته الأربعة: التمثّل الإدراكي، التمثُّل الزمني السردي، التمثُّل الدافع لتطوّر القصّة، والتمثُّل الذي يضعه ضمن المشهد في علاقة مع ما يسبقه وما يلحقه سواء ضمن نفس المشهد أو ضمن البناء ككل؛ الحوار الطّويل يأتي خروجاً من هذا المأزق، وذلك كالتّالي: لا بدّ للثّقوب الكبيرة والعديدة في الفعل الدّرامي The Action عندما يتعرّض للتخريب والتّمزيق بسبب معضلة "الخشبة" الأزليّة – الأبديّة، لا بدّ أن يقوم الحوار الشّارح بعمليّة رتي، وهي خديعة دراميّة تتسبّب بأذى كبير في تحديد هويّة الفرجة المسرحيّة: هل ما نراه "حكواتي" يقوم ببعض "الحركات الجزئيّة" المساندة للقصّة الشّفهيّة؟ أم أنّه يجب أن نصدّق – وذلك بصرف النّظر عن الجؤار الأدائي الصّوتي – أنّ هذه الحركات المصاحبة للسرد اللفظي هي حقّاً فعل درامي؟ ما سبق كان استهلال للاقتراب من توضيح وتعريف للفعل الدرامي The Action، وذلك سوف يكون موضوع الباب الثّاني (ب)  من هذا الجزء الخامس نفسه.