2017/05/20

في اليوم العالمي للمسرح: يسقط المسرح (الجزء السادس ب)
في اليوم العالمي للمسرح: يسقط المسرح (الجزء السادس ب)

 بوسطة - بشار عباس

الفرجة المؤقّتة الزّائلة : فنّ صناعة التّلاشي ..

- ب- المسرح المسلّح بالمقالات الرنّانة.

هناك على الطّاولة صحيفة مفتوحة تُظهر مادّة تتناول عرضاَ مسرحيّاً؛ لقد وقع منذ يوم، أو شهر، أو سنة،إنّها مزوّدة بصورة فوتوغرافيّة ملوّنة للحظة من لحظات العرض،وإلى  الأسفل منها، أو على ايمانها، أو على شمائلها: مادة كلاميّة ؛ يمكن اقتطاع هذا الجزء من الصّحيفة وتثبيته على الحائط،، ذلك ما تبقّى من العرض الّذي أمسى أثراً بعد عين.

الصّورة الفوتوغرافيّة مع كلمات المادّة المكتوبة إنّما هما مسامير لتثبيت ذلك العرض،ولكن على جدار من العدم؛فالنّاقد المسرحي إذا دقّقنا في وظيفته؛ إنّما هو " شاهد عيان" لحادثة دراميّة انقضت واختفت، إنّه يحكي لنا عن تجربته الفرديّة الّتي لا يُمكننا التّحقّق منها،فيبقى كل ما يقوله – سواء كان ناقداً جيّداُ أو مجرّد شاهد زور درامي – يبقى على ذمّة الرّاوي.

إنّنا – على سبيل المثال -  قد نقرأ الآن كلاماً للروائي تولستوي يقول فيه: (  شكسبير كاتب تافه ليس لديه موهبة ،وأنا مقتنع بأنّ العبقريّة العظيمة الّتي يوصف بها ،والتي تجعل كتّابنا يقلّدونه،إنّما تؤدّي إلى تشويه فهمهم الجمالي والأخلاقي،وذلك شرّ عظيم كما هي كلّ كذبة شر ) .

إن الفارق الزمني بين ولادة تولستوي ووفاة شكسبير هو  212 عام، لكنّ هذه المدّة لم تمنع الأوّل من قراءة نتاج الثّاني، ثم إضافة رأي بشأنه،وقبل وفاة تولستوي بسبع سنوات سيولد الروائي جورج أورويل،ولاحقاً سوف يتناول رأي تولستوي قائلاً : ( إنّ موقف تولستوي من شكسبير،والمستند أصلاً على نصّ مسرحيّة الملك لير،إنّما هو رفضاً منه لمقولة القصّة،فالملك لير كان يُريد من الجميع أن يعاملوه كملك بعد تنازله عن العرش،أي: أن يحتفظ معاً بامتيازاته كملك،وأيضاً بافتخاره أنّه تنازل عن العرش،وكذلك تولستوي المنحدر من طبقة النبلاء،لقد تنازل عن امتيازاته كأديب لا يُريد لغير الأدب أن يحكم على قيمته،ولاحقاً تنازل بشكل فعلي عن امتيازاته عندما وهب أملاكه للفلّاحين، لكنّه رغم ذلك بقي راغباً في أن  يُعامله الجميع كملك، إن شكسبير هو مرآة كشفت لتولستوي ما لم يكن راغباً باكتشافه).

نصوص شكسبير،ورأي تولستوي،ورأي أورويل لاحقاً؛ جميعها يمكن العودة إليها وتأمّلها، إنّها " ديالكيتيك " وسجال فنّي استغرق قروناً عديدة ، أمر كهذا ينسحبُ أيضاً على أيّ فنّ آخر، فعندما يقول روجر إيبرت عن فيلم طعم الكرز – عباس كيارستامي- أنّه ( ممل،وتافه،وبلا قيمة) فإنّ الفيلم لم يزل موجوداً ويُمكن العودة إليه، وذلك على خلاف عرض مسرحي يحدث وينقضي فوراً ؛ إنّه لم يعد موجوداً للنّظر إليه؛ الادّعاء الفنّي على الخشبة عمره قصير جدّاً، وبعده يعود كلّ شيء كما كان ، ما خلا المقالة الرنّانة في الصحيفة: لقد كُتبت،ونال كاتبها شكر وثناء من قاموا بالعرض المسرحي،أو: غضبهم واستنكارهم،وفي الحالتين لا يُمكن إعادة الساعة إلى الوراء، لقد قبضت أجور المقاله، وشروه بثمن بخسٍ دراهم معدودة .

للتعويض عن ذلك العدم الدّرامي، يجب أن يكون لدى كاتب المقالة كميّة هائلة من كلمات،وتراكيب، لا تصف العرض الّذي حدث وانقضى، بقدر ما تصف إمّا كيفيّة تذوّقه للعرض، أو كيف شُبّه له ما شاهده، وكذلك تكشف مقدراته الأدبيّة في حشد تعابير كثيراً ما تكون منقطعة العلاقة مع العرض،فيشكّل المقال بذاته أدباً موازياً للعرض المسرحي،ويكون القرّاء على نوعين: الأوّل هم قلّة ممن شاهدوا العرض،فيقوم المقال بحرف وجهة نظرهم وتذوّقهم الجمالي،فيقرؤون فيه عادةً ما لم يشاهدوه،والثاني هم جمهور الصحيفة،ممن لم يُشاهدوا العرض،قد يكون عددهم هائلاً،فيظنّون – تخيّلاً بفعل الكلمات والصّورة– أنّ العرض كان كما هو مكتوب في المقال،وأنّ الذين شاهدوا هُم جمهور واسع عريض بما تعني كلمة جمهور من معنى، وكما هو جمهور الصحيفة.

وهكذا يصل العرض إلى قارئ الصّحيفة بعد مروره ببوابتين للمبالغة،بعدستين مكبّرتين تقوم كل منهما بتضخيمه؛ الأولى هي العرض نفسه،وطبيعة هذه الدراما المجتزأة الّتي تميل إلى التهويل في الحوار The dialogue ، الممثلون الذين يؤدّون شخصيّات على الخشبة ليس لديهم الكثير ليفعلوه في تلك المساحة المحدودة، وتحكمهم ديكتاتوريّات المسرح الأربعة ( المسافة،الموضع،الزاوية، الحركة) فإنّ الحوار يجب أن يشي بمسائل خلافيّة مدوّية: التّهويل لفظاً وليس فعلاً،فتتحوّل كثير من العروض إلى محاضرات وخطب رنّانة في الفلسفة،أو في علم النّفس الاجتماعي، الوجوديّة يجب أن تحضر،ومعها: مقاربات انزياح الماضي، رفض كل شيء والصراخ بوجه الرتابة، تعرية الذّات ووضعها في مواجهة مع ذاتها، ثمّ يأتي دور العدسة المكبّرة الثّانية،وهي المقال النّقدي،فيمتلئ بكلمات وتراكيب رنّانة – على سبيل الذّكر إذ يستحيل الحصر- من قبيل : العرض يُحيلنا إلى – المخرج يتّكئ على – وكأنه يُريد أن يقول – نهاية العالم – أسئلة الوجود – توليفة دراميّة – العوالم السفليّة – المسرحيّة تطرح تساؤلات ليس من السّهل الإجابة عليها – تعرض للقضايا المسكوت عنها – الممثلون يتحرّرون من شرط الزمكان – اللحظات الهاربة – تشريح اللحظة – المُخرج يناوش الوعي السائد - سؤال الهويّة – جوهر الأسلبة – السّعي نحو الانعتاق  -  الفراغ – الخواء – العبث – تفتّح الجسد – الطبقات المسحوقة  - تكسّر الحلم – زمن يحتضر – مستقبل غائم – مقاربة تاريخيّة – تفكيك أفقي وشاقولي لبنية النصّ – شظايا الوعي – الرافعة الدراميّة – التّسليع البشري – يشتغل على مسودة دائمة الكتابة – يتحرّر من دكتاتوريّة الأدب لصالح الارتجال - العرض يضع الجمهور على صفيح ملتهب  ساخن .. وهذه القائمة تطول كثيراً.

 

ولكن هل يخرج أحد الحضور ليقول أنّ التجربة لم تعجبه ؟ هل فكّر أثناء العرض بأنه " أن تسمع بالمسرح خير من أن تراه " ؟  للأسف لا، فالمزاج الثقافي المحلي – وكثير من المزاج العالمي – هو مزاج تكفيري -  فني:  هل من المعقول أنّ هذا العرض لم يُعجبك ؟ لقد كتبوا فيه ثلاثين مقالاً !!

من الذي يكتب ؟ ومن الذي ينشر ؟ الذي يكتب هو صحفي سيأتي بمادّة " دسمة " إلى الصفحة الثّقافيّة،فالحديث الآن عن أبي الفنون الّذي يولد من رماده،والصّورة الفوتوغرافيّة سوف تكون عنصر جذب قوي للصّفحة،مع تزويد المقال بعنوان رنّان مدوّ لا يقل عربدةً عن المفردات الواردة فيه؛ من الّذي ينشر ؟ إنّهم رؤساء تحرير ومدراء نشر لا يفهمون عادةً الكثير من تلك المفردات،ولكنّها ستمنح الصفحة الثّقافيّة،والصحيفة عموماً، الكثير من الأهميّة والضّخامة،فالمفردات يبدو أنّها عميقة وفخمة وغير شكل.

ليس ثمّة من مشكلة لو أنّ الامر يقتصر على المسرح،هناك في عواصم ومدن عالميّة عديدة الكثير من العروض،والكثير من المقالات،ولكنّها هُنا،عندنا، تتسبّب في أذى كبير للسينما،وأيضاً في إشكاليّة عظيمة الأهميّة بالنّسبة للواقع المعيش؛ الزّوال في المسرح ينسحب على الفيلم السّوري، وعلى الواقع السّوري أيضاً.

إنّ رواج الثقافة التّنظيريّة المسرحيّة، ومنها المسرح المسلّح بالمقالات الرنّانة، يؤدّي إلى شيوع تقاليد عرض فيلميّة مطابقة لتقاليد العرض المسرحيّة:  الفيلم السّوري يُعرض لبضعة أيّام، لا يراه جمهور حقيقي وإنّما حضور، وهم عدد قليل لا يتجاوز المئات، ثمّ يختفي الفيلم – كما تختفي المسرحيّة– ولا يبقى منه سوى مقالات رنّانة ،وبعدها يذهب الفيلم أدراج التّخزين، هذه اللّوثة ممتدّة أيضاً إلى الدراما التّلفزيونيّة المحليّة: كثير  من صنّاع المسلسلات لا يعنيهم إلّا بيع المسلسل،ولا يهتمّون بصناعة مادّة قد تشكّل ذاكرة ( كما المسلسل المصري ليالي الحلميّة مثلاً ) والمسلسلات السّوريّة الّتي شكّلت ذاكرة هي جدّ قليلة، وربّما تكون هذه المشكلة أكثر ارتباطاً بطبيعة المسلسل التّلفزيوني نفسه، فالكثير يصفه أنّه بلا ذاكرة، ولا يؤرّخ، مع أنّ كلام كهذا يفتقر إلى الدقّة.

إنّ نشوب العرض المسرحي على عجالة،ثمّ ينطفئ على عجالة،وتلاشي هذه التّجربة الفرديّة – الشّخصيّة،دون أن تتمكّن من صناعة تراكم تقني، تؤدّي أيضاً إلى انسحاب هذا المنطق على الفيلم والمسلسل السّوريين، وهي معضلة يشعر بها كل صانع فيلم أو صانع مسلسل تلفزيوني: إنّه أمام تجربة قريبة من اعادة اكتشاف العجلة، فكلّ شيء سوف يؤسّس من الصفر.

إنّنا بعد عقود مديدة على بداية صناعة الفيلم،وصناعة المسلسل، نفتقر في طول البلاد وعرضها إلى " مهني " فنّي يستطيع تركيب لحية مستعارة لممثل بشكل جيّد وقابل للتّصديق، فنعمد إلى استيراده، نفتقر إلى شركة أو مجتمع مهني يستطيع تأمين ممثلين، يستطيع بحرفيّة تزويد صنّاع الفيلم أو المسلسل بعدد من الاكسترا – الكومبارس- ليس هناك مجمّع لوكيشنات يفي بالاماكن المتكرّرة الّتي من المتوقّع أن تظهر كثيراً على الشّاشة ( مستشفى – شقّة – مقهى – مخفر – حديقة – مدرسة – نادي رياضي  .. إلخ ) . لدينا فقط ديكورات لمسلسلات البيئة، ليس هناك استوديو بحري لمشاهد البحر، ليس في البلاد شركة أو شخص متخصّص يستطيع تزويد الفيلم أو المسلسل بفنّي أو فنيي صوت مُحترفين على مستوى عالمي، لدينا امكانيّات متواضعة في هذا الخصوص، فنعمد  أيضاً إلى استيرادهم في المشاريع المهمة، مفهوم إدارة الانتاج في الفيلم والمسلسل لم يزل غائماً وغير محدّد – مثل وظائف فريق العمل في المسرحيّة – فمدير الانتاج لدينا يقدّم خدمات عقاريّة،وخدمات تنقّل ومواصلات، وتأمين أغراض، ومواقع، وأطعمة، ليس إلّا، لماذا التعامل مع هذه الاشكاليّات لا يتطوّر ؟ كيف لا يغدو أسهل سنة بعد سنة ؟ على افتراض أن الثّقافة وتجارب الانسان ذات طابع تراكمي، إن واحداً من الأسباب هو شيوع تقاليد المسرح، وهيمنتها على الدراما في الشاشتين الكبيرة والصّغيرة، فالعرض المسرحي يقع في مكان واحد – الخشبة – وهي تُعادل لوكيشن واحد في عالم الشّاشة، الديكور والأزياء وكل ما هو لوجيستي يخضع لشرط السينوغرافيا التي تستطيع بسهولة أن تهرب إلى الخيار التّجريدي، وفي نهاية المطاف تزول بزوال العرض.

إذا كان تفشّي الثقافة التّنظيريّة المسرحيّة في البلاد،وتحكّمها في نوعيّة المثقّف المحلّي تؤدّي إلى إلحاق كبير الأذى بصناعة الفيلم والمسلسل، فما هو أثرها على الواقع نفسه ؟ العرض الذي زال بعد أيّام على بداية عرضه، الديكور الذي تمّ تفكيكه وإعادته إلى المستودع أو بيعه كخردة،الوجود المؤقّت الّذي لن يراه أحد بعد ذلك، كل ما سبق: ما هو اثره على " الواقع " الحياتي اليومي ؟ إنّ الدّراما الّتي تحاكي الواقع تعود إليه بطريقة عكسيّة أيضاً، اي: الواقع نفسه يأخذ بمحاكاتها، ومن المفهوم أنّ يؤدّي شيوع وتفشّي ثقافة الزوال والتلاشي بسبب الخشبة، إلى تفشّي هذه الثقافة في الواقع نفسه، فتزول مدن وقُرى مع أشخاصها من الواقع، كما يحدث على الخشبة؛ الأشخاص مثل الشخصيات، والمكان مثل الديكور، وذلك سيكون عنوان الباب الأخير من هذا الجزء السّادس : التّلاشي على الخشبة و التّلاشي في الواقع.