2013/05/29

في رحيل عمار الشريعي موسيقا الزمن الجميل
في رحيل عمار الشريعي موسيقا الزمن الجميل


علي الأحمد – الوطن السورية

ما أوجع الخسارات والانكسارات حين تكون بحجم وقامة كبيرة كعمار الشريعي الذي أبهج قلوبنا المتعبة بموسيقاه العالية فكراً وممارسة، بعذوبتها ورنينيتها وشدوها الفتان الذي يجبرنا على السؤال: ماذا فعل هذا الفارس الموسيقي النبيل حتى يكتسب هذا الحيز الكبير في حياتنا؟ وماذا فعل أيضاً كي يبقى قريبا وقريبا جداً من تفاصيل حياتنا؟ أي سحر أحاط بهذا الاسم المبدع في موسيقانا المعاصرة التي لاشك أنها فقدت برحيله أحد أعمدتها وفرسانها الكبار؟

-وهكذا يرحل عمار الشريعي ويتركنا كعراة في صقيع روحي ما بعده صقيع يغادرنا دون تلويحة وداع في زمن ما أحوجنا أن يبقى معنا ينثر بذاره الموسيقية الطيبة في طين وملح الأرض التي أحبها وعشقها، هي خسارة موجعة بحق أن يسافر هذا الكبير بعيداً وطويلا دون أن يكون بمقدورنا أن نملأ الفراغ الذي سيتركه هذا الرحيل المر، نعم لقد خانه القلب هذه المرة بعد أن أتعبه كثيراً، خانه لأنه ببساطة لم يعد يريد أن ينبض ويعيش مرغماً في زمن موسيقي «كاريكاتوري «مصاب بأنيميا إبداعية لا شفاء منها وهو الذي استشعر ببصيرته العالية مكامن هذا الخطر وحاول كثيراً الوقوف ومعه مبدعون قلة في مواجهة مقولات هذا العصر الموسيقية التي ترسخ في أغلب نتاجاتها الرداءة والسطحية، وماذا عساه يفعل في سطوة وطوفان اللغة التجارية التي باتت تستبيح كل القيم الروحية والوجدانية التي قام عليها هذا الفن؟ نعم حاول مرارا ومنذ أن احترقت أنامله بجمر وجوهر الموسيقا العربية، وفي أنماطها وتقاليدها الموسيقية والغنائية كافة أن يغرد خارج السرب وأن يعيد ولو بحدود رسم مسار جديد يتماهى مع اللغة الأصيلة التي تتلمذ عليها وتشبع من قيمها وإرثها الإبداعي الممتد الذي قدمه بعطاء جديد ومغاير أدخل عليه مفردات اللغة الحداثية بقيمها التعبيرية والتصويرية التي فهمها كإثراء وإغناء للروح القديمة وليست بديلا منها، فكتب موسيقا عربية معاصرة تجمع الضدين بروحية قد لا تتكرر، وفي أعماله السامقة كافة كان عمار الشريعي يبحث عن صيغ جديدة تضيف إلى الإرث الإبداعي القديم كما تضيف إلى اللغة الإنسانية المنشودة التي أطرت نتاجه الموسيقي والغنائي في معادلة فنية وابداعية من الصعب أن تتكرر.

رحل عمار الشريعي بعد أن غاص وأطال المكوث في بحر النغم العربي وعبر صميم التجربة الموسيقية التي خاضها بروحه وبصيرته الموسيقية الكاشفة، أمكن له أن يؤسس لمشهد إبداعي خاص ومتميز، تمايز كثيراً عن أقرانه في لغته التعبيرية الرشيقة التي سكنت مجمل أعماله في الإذاعة والتلفزيون والمسرح والسينما وألحانه الخالدة التي لا تنسى كما في عديد برامجه وأمسياته الفاتنة التي أثرت حياتنا جمالياً وذوقياً، ليرحل وهو في قمة العطاء والإبداع، لكنه سيبقى على الرغم من غيابه دوما في الأمام، دوما في قلب الزمن الموسيقي الجميل، سيبقى إلى جانبنا نحن الذين رقصت أرواحنا على نغمات عوده كما على سحر إيقاعاته وشدو صوته الموسيقي الشفيف الذي لن ينطفئ لأنه صوت مشغول بسحر وعطر أثيري خاص جداً، ومن المحال فك وحل رمزه ورمزيته، ما تراه يكون هذا السر الذي امتلكه هذا المبدع الكبير حتى يجعلنا نفتتن به وبموسيقاه العذبة إلى هذا الحد، أتكون هي موسيقاه التي تشبهه كثيراً في أصالته والتزامه الأخلاقي والتربوي، موسيقا تختصر أزمنة الإبداع كلها، مكتوبة أيضاً لزمان آت حتماً، يشبه تماماً قصيدة حب قديمة تتجدد في ذاكرتنا، في وعينا وتفاصيل أيامنا وغربتنا الطويلة، أم يكون السبب في أخلاصه وتفانيه حتى آخر نوتة نبيلة بموسيقاه لهويته العربية وعناصر الإبداع فيها التي رفدها بحداثة لغته الموسيقية ابنة الأصالة والمعاصرة بآن وهو في ذلك خاض معارك موسيقية كبيرة انتصر فيها جميعاً، لأن الأذن العربية الأصيلة كانت معه تسانده بلا هوادة، كانت دائماً تربت على عوده لينطق بأعذب الألحان وأشجاها؟ ألم يقل مولانا جلال الدين الرومي وعازف الصنج الذي يعزف المقامات العشرين والأربع، عندما لا يجد مستمعاً، يكون الصنج حملاّ عليه؟

عمار الشريعي أيها المبدع الكبير لم ولن يكون «عودك حملاً ثقيلاً بل سيبقى ملاذنا وملجأنا في زمن العقم والخواء، في زمن الخراب والهزائم الموسيقية التي لا تنتهي.

رحل عمار الشريعي في السابع من كانون الأول 2012.