2017/03/28

بوسطة - بشار عباس

المقالة الأولى من هنا

-2-

العَرَج الدّرامي الوطني

يُمكن تلمُّس هيمنة الذّهنيّة المسرحيّة على السّينما والتّلفزيون في سورية من خلال عدّة مظاهر،وهي هيمنة قادمة من كون المسرح لديه أكاديميّة تُعقد فيها المحاضرات والورشات والعروض،بينما ليس لدراما الشاشة مرجعيات أكاديميّة، تلك واضحة أوّلاً في المصطلحات، وثانياً في إنزياح تقنيّات الخشبة إلى الشّاشة،ما يؤدّي إلى ضعف كبير في الأخيرة.

من تلك المصطلحات نجد "سينوغرافيا" التي تتكرّر في أكثر من فيلم سوري ضمن أسماء فريق العمل، ويُقابلها في الفيلم الوظيفة: (Art  direction) أو (Production designer)، ومُصطلح السينوغرافيا في المسرح دخل الإنكليزيّة من اليونانية، ويتكوّن من مقطعين (Skini) وتعني وصف، (وGrafo) وتعني الخشبة، وهذا قريب في الفيلم من  describe a setting : وصف مكان المشهد؛ إنّ السينوغرافيا كمصطلح مسرحي مختلف وبعيد كلّ البعد عن المصطلحات الفيلميّة الموازية له،أو الّتي يُتظنّى أنّها قريبة،وإذا كان من يعتني بالسينوغرافيا في " الفيلم" يقوم بذلك وهو يقصد ال production designing  كما يجب أن يكون، فلا مشكلة، ولكنّه إذا كان يفكّر فعلاً بالسينوغرافيا كما هي في المسرح، لفظاً ومضموناً، فإنّ ذلك قد يقود إلى عواقب وخيمة في صناعة الفيلم.  

إنّ السّينوغرافيا قد تكون " كلاسيكيّة " تحترم قانون الوحدات الثّلاثة، باروكيّة تذهب إلى تزيين الخشبة بديكورات فخمة،ارتجاليّة، رومانسيّة تنزاح عن الشعريّة الارسطيّة، واقعيّة تنسجم مع المذهب الطبيعي،رمزيّة تعتمد الإيحاء والتلويح، سورياليّة ترتكز على اللاشعور الفردي، ملحميّة مُصمّمة وفق مفهوم كسر الجدار الرّابع، تكعيبيّة تستخدم المنظور المسطّح والعمق والأشكال الهندسيّة ، كوليغرافيّة تقوم على البانتوميم والرقص الاستعراضي والباليه لمواجهة رتابة الحوارات الطّويلة.

هل يمكن استعمال "السينوغرافيات" السّابقة في تأسيس ( ميزانسين ) مشهد فيلمي ؟ الجواب صعبن لأن مصطلح " ميزانسين " في المسرح هو شيء مختلف تماماً عنه في الشّاشة، وهذا سيأتي ذكره لاحقاً،السّؤال يجب ان يُطرح مبدئيّاً بلغة بسيطة: هل تصلح واحدة مما سبق لتأسيس " ديكور" مشهد فيلمي ؟ هل يمكن وضع سيّارة واحدة – مثلاً – في ساحة القرية ضمن مشهد فيلمي، على افتراض أنها ترمز لشيء ما ؟ أو وضع مقعد دراسي واحد في مشهد فيلمي كدلالة على أن المكان صفّ مدرسي ؟ هل يمكن وضع ستائر مع إضاءة خضراء للقول أنّنا في مسجد ؟ ما يظهر في المكان الفيلمي – المشهدي هو ما يُشرح ضمن السيناريو المكتوب أوّلاً، وهو ما يفهمه المخرج بالاتفاق مع مصمم الدّيكور، وكلّه ينبع من تاريخ القصّة،ظروف القصّة،ظروف وسمات الشخصيّة، ليس له أن يكون لا رمزيّاً ولا تعبيريّاً ولا سورياليّاً؛ غرفة طفل من الطّبقة الوسطى يجب أن تكون غرفة طفل، لا يظهر في سقفها عشرات الأنابيب الفضّية الأفقيّة المتداخلة،في ترميز إلى العقد التي يكتسبها الآن، او لطوفان نوح معاصر ومعلّب، ذلك يجوز على الخشبة، أمّا في الفيلم سوف يفهم الجمهور أنّ الأسرة تقطن بحجرة محركات التكييف المركزيّة؛ إنّ الاشتغال في الفيلم بعقليّة " السينوغرافيا " قد ألحق أذى كبير بسويّة العديد من الافلام السّوريّة، إذا كان بالإمكان اختيار فيلم سوري معبّر عن هذه الإشاكاليّة فليس افضل من فيلم يُعتبر أنموذجاً لذلك: صندوق الدّنيا -  2002، القصّة الفيلميّة معدومة،البناء مفقود، العمل عبارة عن مشروع تجريبي في السينوغرافيا الرمزيّة،والسورياليّة، والتجريبيّة، يعتريها حوارات تكشف عن اصوات بشرية بلا مضمون، ومثله افلام شتى كثيرة,

 

إنّ بعض صنّاع الفيلم، ونتيجة تفشّي الثّقافة التنظيريّة المسرحيّة في البلاد، يتعاملون مع ممثل الكاميرا بذهنيّة ممثل الخشبة، ويتحدّثون له ومعه عن " الميزانسين" عندما يقومون بال " Blocking ، والّذي هو: الاشتغال على تفاصيل حركة الممثّل في علاقتها بالكاميرا، بينما لم يستقرّ الميزانسين المسرحي على تعريف واضح محدّد، على العموم وحرفيّاً، هو" الحركة داخل المشهد " و " التّكوينات الحركية " أو " عمليّة تنظيم الممثلين ضمن المشهدية " بينما المتفق عليه اعتباطيّاً وعرفاً أنّه" رسم حركة الممثل" ، ولقد يكون ذلك التّباين في التعريفات بحد ذاته عرف مسرحي،شأنه في ذلك شأن " الدراماتورجيا " التي لم يُعثر لها على تعريف بسيط، بينما الميزانسين في الفيلم هو بهذه البساطة : كلّ ما نراه في المشهد بصرف النّظر عن الكاميرا، أو: قبل أن تتدخّل الكاميرا، أمّا حركات الأخيرة ومواضعها وأحجام لقطاتها وزواياها، فيُدعى Mise – en- shot .

إن الكثير من مخرجي الفيلم المحليّين هم ليسوا مخرجين بالمعنى الفيلمي الدّقيق، ذلك قادم من رواج التباس هذا المعنى في المسرح، والتباسه مع مفهوم "الدراماتورجيا" فتارةً تُمارس الإخيرة بمعنى مجتزأ يهتمّ بتحويل النصّ فقط إلى اللهجة المحليّة، وتارةً بمعنى تفريغ النصّ للإخراج، وطوراً بمعنى "الانتاج" وأحياناً يشتمل على الإخراج، أو يذهب البعض إلى توصيفه كعمليّة إشراف و "حراسة" شاملة للنصّ في السينوغرافيا وفي الاداء، هذا اللبس انتقل إلى الفيلم، ولكن مع اقتصاره على "إدارة الممثّل" وفقاً للنصّ، ما جعل وظائف فريق الفيلم نفسها غير محددة: فتارةً يكون المخرج هو "مدير تصوير" ولكنّه يستعين بمدير ممثل، وطورا يكون مدير انتاج بمعنى producer  يستعين بعلاقاته لتمرير فيلم، وبشخص ثاني يكون هو المخرج الحقيقي، يهب له اسم من قبيل مساعد مخرج، أو مخرج منفذ.

ومن المسرح اتت مهنة "مدير الإضاءة" إلى الفيلم، ورغم كونها في الاول جزء من السينوغرفيا حيناً، ومنفصلة عنه حيناً آخر – وفق الميول الشخصيّة للقائم على صناعة المسرحيّة – غير أنّها في الفيلم لا وجود لها كدور او كوظيفة بمعزل عن الكاميرا، أي أنّها جزء من وظيفة مخرج الصّورة Director of photograohy او ما اصطلح على تسميته: مدير التّصور، في تترات الأفلام وبعض المسلسلات كثيراً ما نجد "مدير الإضاءة" وأحياناً تُدمج مع مدير التصوير، في إيحاء، وربّما في ممارسة، لتصميم الإضاءة خارج التصوير نفسه، إنّها في الفيلم تتبع التصوير، وقرارها النّهائي لمدير الصّورة، ليس لها وجود منفصل أو إيحاء ما خارج ما تراه الكاميرا.

غير أنّ المشكلة الكبرى الّتي تلحق بالشّاشة، كبيرها وصغيرها، من رواج الثّقافة التّنظيريّة المسرحيّة إنّما تكمن في الأداء، إنّ الأداء امام الكاميرا محكوم إلى درجة كبيرة بالأداء المسرحي، وهذا سوف يُناقش في المقال القادم: المبالغة في الأداء والمبالغة في الكتابة.