2012/07/04

كانت العربية الفصحى لغة الدراما الوحيدة منذ قبل خمسينيات القرن الماضي سواء في الإذاعة أو المسرح.
كانت العربية الفصحى لغة الدراما الوحيدة منذ قبل خمسينيات القرن الماضي سواء في الإذاعة أو المسرح.

الوطن – عدنان حبال

كما كانت تسيطر على عدد كبير من الأغاني والموشحات ولم تدخلها اللهجة العامية إلا على يد القصاص الشعبي الرائد (حكمت محسن) وعلى ألسنة شخوصه الشعبية الشامية: أبو رشدي وأم كامل وأبو فهمي ثم أبو صياح، وقد لجأ الفنان نهاد قلعي وزميله الفنان دريد لحام لاستخدام اللهجة الشامية الراقية في إنتاج وإخراج وبطولة مسلسلات فكاهية شعبية ناقدة مثل مقالب غوار وحمام الهنا وصح النوم ومسرحيات سياسية كوميدية رائعة كتبها محمد الماغوط مثل (غربة) و(ضيعة تشرين) و(كاسك يا وطن) وشارك فيها عمر حجو وشاكر بريخان وهالة شوكت ونبيل خزام وصباح جزائري وكذلك أفلام مثل الحدود والتقرير كتبها أيضاً محمد الماغوط ثم اتجه للتلفزيون فكتب مسلسلات مثل حكايا الليل ووادي المسك وملح وسكر وغيرها. وقد لاقت هذه الأعمال ذات اللهجة الشامية المحلية رواجاً عربياً واسعاً بسبب طرافتها الذكية وسخريتها اللاذعة غير المباشرة من الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية التي سادت المجتمعات العربية في تلك الفترة وبسبب جمال حوارها الممتع والسهل وقيام كبار فناني سورية بالتمثيل فيها وإخراجها، أما في لبنان فقد بقيت الدراما المسرحية والتلفزيونية عقوداً طويلة تكتب بالعربية الفصحى ويؤديها فنانون لبنانيون جيدون ومثقفون مثل نضال الأشقر وهند أبي اللمع وأحمد الزين وعبد المجيد المجذوب وكانت الفصحى أيضاً لغة مسرح أبي خليل القباني ومارون نقاش والنادي الشرقي للتمثيل والموسيقا ثم المسرح القومي في دمشق ثم في المحافظات وفي مسرح سعد اللـه ونوس ووليد إخلاصي وممدوح عدوان ووليد مدفعي ورفيق الصبان والمسرح الجامعي. وقد نشأت الدراما التلفزيونية بالعربية الفصحى وتطورت سواء أكانت تاريخية أو أدبية أو معاصرة لكنها تحولت مع انتشار العامية ورواجها إلى استخدام اللهجة العامية على نطاق واسع وظلت الفصحى تستخدم في الأعمال التاريخية والدينية. ومن ثم فيما يسمى الفانتازيا التاريخية التي لم تعمر طويلاً وتراجعت أمام الأعمال التاريخية الموثقة أو أعمال سيرة كبار الأدباء والفنانين العرب القدامى والتي ما لبثت أن تحولت أيضاً إلى العامية. مثل (أم كلثوم) و(نزار قباني) و(أسمهان) و(ليلى مراد) و(جمال عبد الناصر) وثم (السادات) و(عبد الحليم حافظ). وقد كان بعض كبار الممثلين وأساتذة المعهد العالي للفنون المسرحية لا يعترضون على التحول بالدراما إلى اللهجة العامية المحكية بل يؤيدونه ويقولون إن الفصحى باتت لغة قديمة وثقيلة على جمهور المسرح والسينما والتلفزيون وعلينا ألا نستخدمها إلا للتاريخي والديني والعالمي المترجم للعربية وقال أحدهم مؤخراً في ندوة حول المسرح السوري: (الفصحى لغة سمجة والجمهور يكرهها وينفر منها).

لكن هذا الكلام غير صحيح على الإطلاق. لقد ثبت أن جمهورنا العربي في كل مكان يرتاح ويسعد للفرجة على الدراما المنطوقة بالفصحى سواء أكانت تاريخية أو من الخيال العلمي أو معاصرة. إن أهلنا في بيوتهم ومن مختلف طبقاتهم الاجتماعية، وأخص بالذكر الأطفال منهم واليافعين والمسنين يطربون لسماع اللغة الفصحى الصحيحة ويفهمونها ويحترمونها وتؤثر فيهم أكثر من العامية. وكما أنهم يفضلون مشاهدة المسلسلات الأجنبية المترجمة إلى اللغة الفصحى وقد بدؤوا ينفرون ويملون من ثرثرة باب الحارة ومن الأعمال المدبلجة إلى العامية، رغم أنهم أحبوا بداياتها ورحبوا بها ويطالبون اليوم بالدبلجة إلى الفصحى والتخلص من اللهجات المحلية البدائية وحواراتها الممطوطة المختلفة. وأخيراً ثقوا أن العربي في كل مكان يفضل الإصغاء إلى حوار درامي باللغة الفصحى ويحبه ويفهمه أكثر من العامية سواء أكانت مصرية أو سورية أو لبنانية أو غيرها وسواء كانت تراجيدية مثل (هدوء نسبي) أو كوميدية مثل (صبايا).

دعونا إذاً نكرر التجربة الرائدة الناجحة في استخدام اللغة العربية الفصحى في مختلف انتاجات الدراما السورية، سواء في المسرح والإذاعة، وهما الرائدان في هذا المجال وما زالت الدراما الإذاعية تعتمد اللغة الفصحى في معظم أعمالها الدرامية وكذلك المسرح وإن جرب بعض مخرجيه استخدام العامية أحياناً بقصد الطرافة والإضحاك وعسى أن تهتم أفلامنا السينمائية، إن وجدت، بالفصحى كما تفعل السينما الأوروبية ولتصبح اللغة الفصحى الجميلة الخالية من الأخطاء لغة موحدة للدراما التلفزيونية السورية كلها. وأعود فأوكد أن جمهورنا العربي بصرف النظر عن مستوى تعليمه وثقافته ما زال يرحب من أحاسيسه وعاطفته وتفكيره بالعودة إلى لغته العربية الفصحى وسيصغي إليها ويفهمها ويتفاعل معها وسوف نرى أنها سوف تساعده على ترسيخ انتمائه القومي العربي وتساهم عملياً وجدياً في تمكين اللغة العربية وتعليمها وتطويرها ودعم اللجان الثقافية والأدبية السورية والعربية التي تتشكل لتمكينها فتكتفي بالترويج نظرياً لأهميتها وحمايتها من الضعف والانهيار في مواجهة العولمة والاستهتار بلا أي خطوات عملية لتحقيق ذلك. كما أن عودة الدراما للفصحى تعني العودة لقراءة الكتب واستخدام العربية الفصحى في الاتصالات الهاتفية الإلكترونية وشبكات الاتصال العالمية، أسوة بما تفعله منذ عقود جميع الدول الآسيوية والإفريقية المتطورة أو السائرة على طريق التطور والبناء والحريصة على هويتها الثقافية والحضارية وتراثها القومي الذي يظهر واضحاً في إبداعات شعوبها وفي فنونها وحماية لغاتها الأم وثقافاتها التراثية ضد جميع محاولات الإلغاء مختلفة الأشكال والأهداف.

إن الدراما إبداع ثقافي فني يدخل الأدب من أوسع أبوابه كما فعل الشعر والرواية والقصة والتصوير والنحت والموسيقا على مر العصور. ومن واجبنا أن نحافظ أيضاً على هوية الدراما العربية التي كانت سورية رائدة في تكوينها وبثها عبر الفضاء إلى العالم.