2012/07/04

كـلام على "باب الحـارة"
كـلام على "باب الحـارة"

شكري الريان

لم يكن لحارتنا باب في يوم من الأيام، ولكن ذلك لم يمنع الكبار من تحديد حدود للحارة على الصغار أن لا يتجاوزوها وإلا.. والـ "إلا" هذا كانت تتضمن الكثير من الترهيب الذي جلّه كان قادماً من داخل الحارة نفسها ومن "الكبار" بالذات، حيث العقوبة التي لا تغتفر لتجاوز الحدود خشية عدم معرفة طريق العودة لا أكثر ولا أقل. أما عن الحياة في وجوهها الأخرى وفيما يخص "الكبار" فيمكنني القول أن حارتنا (حي الأكراد في دمشق وهو نفس حي الأستاذ بسام الملا مخرج باب الحارة) لم يكن فيها سوق مركزي لتبضع المواد الأساسية اللهم إلا بضعة بقاليات للتخديم السريع. أما المواد الأساسية من خضار وفواكه ولحوم وحتى أقمشة وملابس وسواه، فكنا نذهب إلى "سوق الجمعة" وهو السوق الذي أقيم حول مسجد الشيخ محي الدين في حي الصالحية المجاور وحيث كنا وسكان حي الصالحية نتبضع من نفس المكان ومن نفس السوق. أما عن المقهى فلا أذكر أن حارتنا أو حتى حي الصالحية بسوقه الكبيرة جداً بالنسبة لنا نحن الصغار في ذلك الوقت (نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي)، كان فيها أي مقهى. وأعرف على وجه اليقين أن "القهوة" كانت في ذلك الوقت في مركز المدينة حيث الأسواق الأكبر بما لا يقاس مع سوق الجمعة.. أما أسواق مركز مدينة دمشق والتي كان النزول إليها بالنسبة لنا نحن الصغار بمثابة عيد، فحدث ولا حرج. كانت عالما زاخراً بالألوان والروائح وأطايب لا تتوفر إلا هناك. وكانت أيام "العيد" ممتعة ولذلك كان الجميع يكررها ولأكثر من مرة في الأسبوع. أي كنا جميعاً ومن جميع الحارات نلتقي تقريباً يومياً في أسواق مركز المدينة، وإلا لم فتحت تلك الأسواق وبقيت تعمل مئات بل آلاف السنين!!!... لم يكن لحارتنا باب.. ولم يكن فيها مقهى لأن مكان اللقاء العام لم يكن يقتصر على أبناء الحي الواحد اللذين لم يكونوا بحاجة إلى مكان عام للقاء وبيوتهم موجودة.. ولم نكن معزولين عن الأحياء المجاورة.. ولم نكن نحن وسكان أحياء مدينة دمشق بأكملها معزولين عن بعضنا البعض.. وكان مركز مدينتنا ضاجاً بالحياة طيلة أيام الأسبوع وكان يبلغ ذروته أيام الجمع وبعيد صلاة الجمعة بالذات. حيث كان الكثيرون يقصدون الجامع الأموي الكبير للصلاة هناك وبعدها للتجول والتبضع في الأسواق المجاورة. أي كان في مدينتنا حياة وكان لها مركز يلتقي فيه الجميع، ومن أجل ذلك كان اسمها مدينة. وليست مجموعة حواري تعيش واحدتها معزولة عن الحارات الأخرى، بل وأحياناً في صراع معها، اللهم إلا إن صدف أن وجد عدو مشترك (وهذا ما وعدنا به في باب الحارة 4) فنحن نتحد ضده.. وهذا "الاتحاد" هو شكل الحياة المشتركة الوحيد الممكن في مدينة هي الأقدم في تاريخ البشرية!!!. كثر هم "الشوام" اللذين يتحمسون لهذا العمل معتبرين أنه قدّم التعبير الأفضل عنهم. ولكن جزءاً لا بأس به منهم أيضاً ينظر إلى الموضوع بعين الشك معتبرا أن "باب الحارة" إن كان يقصد أن يكون ذاكرة مرئية لمدينتهم فقد أخفق وقدم صورة في أحسن أحوالها "ساذجة". ولكن بين هؤلاء وأولئك يوجد من ينبه إلى أننا نتعامل مع "متخيل" من حق صاحبه أن يقدمه بالطريقة التي يراها مناسبة، خصوصاً وأنه يقدمه عبر جهاز وجد أصلاً للإمتاع. فأين هي المشكلة إن وجد أحد ما يسرح في الخيال ويسحبنا معه إلى زاوية حميمة من دواخلنا حيث كل شيء واضح ولا أسئلة ولا قلق ولا عقد ولا هم يحزنون. هي ساعة زمن في نهار شاق فهل بات علينا أن نلغي حتى هذه الساعة تحت شعار الوعي الذي لا يرحم. وفي كل الأحوال هذا الجهاز موجود وبدائله أكثر من أن تحصى ومن لا يعجبه ما يعرض على شاشة ما، فما عليه إلا الضغط على الزر السحري ليصبح على شاشة أخرى وفي عالم آخر مليء بما يشاء.. والمشكلة الحقيقة ليست في المسلسل ومن حق أصحابه أن يقولوا ما يرونه ملائماً. حتى ولو كان الملائم حسب وجهة نظرهم مصادرة كل شيء، من تاريخ المدينة التي قلبت إلى حارات معزولة، إلى مصادرة الحق في تنوع الآراء وذلك عبر جعل الجميع متفقين على كل شيء، حتى على الطعام اللذيذ من الطعام غير اللذيذ (مشهد المخفر في الجزء الثاني من المسلسل قبيل الإفطار في رمضان في مخفر الشرطة وعصام بن أبو عصام محتجز هناك.. وكيف أن "المجدرة" لم تعجب رئيس المخفر وقدمت له بطريقة الغاية منها تنفيره أصلاً.. حتى "المجدرة" التي يعشقها الكثيرون صودرت!!). المشكلة هي فعلاً في تلك الشعبية التي حققها العمل لدرجة باتت تدعو إلى التساؤل... هل نحن متعبين لدرجة بتنا نطالب بساعة "السرحان" مع المخيلة ونستزيد. أم ما زلنا في دواخلنا صغاراً نحتاج إلى حارة لها باب وكبار ينهوننا عن المغادرة، وكل هذا خشية أن لا نعرف طريق العودة ونضيع.. باب الحارة بجزئه الرابع سيعرض في رمضان القادم. التوقعات كثيرة والمؤشرات تقول بأنه ما زال محافظاً على جماهيرية قد تزيد بسبب الترقب والترويج الإعلامي اللذي لعب دوراً كبيراً في شحذ هذا الترقب. وفي كل الأحوال سننتظر بدء العرض لنعرف إن سيبقى العمل محافظاً على شعبيته التي ما اكتسبها إلا لأنه عزف على وتر الحميمية والاسترخاء في عسل الوضوح.. أم أنه سيحاول الدخول في متاهة أسئلة "كبيرة" فصلت على عجل ولن تكون على مقاسه، فيضيع بدوره ويضيع جمهوراً لن يلبث أن ينتظر حارة أخرى بباب آخر في رمضان جديد.. سننتظر ونرى..