2012/07/04

متى أحسد الممثلين؟
متى أحسد الممثلين؟

حسان محمد محمود

التخفي ليس عيباً أو غلطاً، دائماً، و للتنكر فوائد و إيجابيات، لا سبيل إلى إنكارها. لا، لن أدافع عن التلصص إشباعاً لفضولٍ تافهٍ، أو عن جمع معلوماتٍ تستخدم في إضرام نار الفتنة، إنما؛ أدافع عن اللا شفافية سبيلاً لبلوغ الشفافية. هل أبرر التنكر من مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"؟ أجل!! لكن في حدود. فالجواسيس، الذين يمدونا بمعلوماتٍ عن عدوٍّ غاشمٍ يكشفون بتخفيهم ما خفي عنا، ويزيلون بحجب حقيقتهم حجباً تمنع رؤيتنا له، وينغمسون في الغموض من أجل انتشالنا منه.   هبْ أنك سائسٌ " ديمقراطي" ، تعتمد أساليب عصريةً في تربية الخيول والعناية بها، وقد وفّرتَ لها مراعٍ خضراء ثرةً  وافرة العشب نضرةً، و أتاك حصانٌ أو فرسٌ ما عهد تعاملك وطعامك الغضين، وآثر البقاء في الإسطبل يقتات بائس الطعام يابسه، ماذا تفعل؟ كيف تتصرف إن أخفقت كل محاولاتك "الرقيقة" كي تدله على المرج الأخضر، حيث فسحات الضوء وامتداد الآفاق و لا نهائيتها؟ ماذا تفعل إن فقدت الحيلة، وغلبك اليأس من إقناع حصانك الجديد كي يكتشف أن عالماً أفضل وأرحب مما اعتاد عليه ينتظره خارجاً، وأن التبن الجاف ليس خياره الغذائي الوحيد؟. هو لم يألف أسلوبك، لأنه معتادٌ على النعر والنهر، آنئذٍ؛ لا بد لك من نعره ونهره، وتقريعه، وسوقه بالطريقة التي يفهمها إلى خارج الزريبة، حتى إذا ما جرب رحابة الفضاء ولذاذة العشب الأخضر، واعتاد عليهما، واستوطنا قلبه و وعيه (الحصاني)؛ يمكنك الكف عن "شذوذك" و العودة إلى أصل أسلوبك " الديمقراطي" الذي اضطرك إرث القمع المتجذر في شخصيته الحصانية إلى الابتعاد عنه. بعدها، اعتذارٌ بسيطٌ يوضح الصورة، وقد لا يكون ثمة حاجةٌ للاعتذار، لأنه في قرارة نفسه يقول: "كم كنت غبياً حين عاندت هذا السائس الرائع". ولسوف تسمع و يسمع نغماتٍ مختلفةً في صدى صهيله الذي تردده الآفاق، بعد أن كان مدفوناً في صدره، أو بين جدران الزريبة، لا بل سيكون وقع حوافره وهو يعدو في السهوب الشاسعات غير وقعها وهو أسير زنزانته الإسطبلية، فشتان بين من يرفس الأرض في حيزٍ محدودٍ مليء بالروث ومن تحرث حوافره الأرض طاوياً المسافات والريح تداعب شعره. أنت هنا اضطررت للتنكر بهيئة السائس القاسي، كي يستجيب الحصان لدعوتك إلى الأفضل له، ولحياته، لكينونته البرية، لجدارته بالحرية (الحصانية).   عادةً؛ نخفي حقيقتنا عمن نخاف، فنضع القناع خشية الانكشاف. كم سمعنا، وقرأنا عن قصص السلف من الخلفاء والملوك والولاة، الذين اندسوا خلسةً بين العامة، متسترين مستترين كي يكشفوا حسن تدبير المؤتمنين على مصالح الرعية، متابعةً لأحوال العباد في طول أو عرض أو وسط البلاد (قبل أيمن زيدان في يوميات مدير عام بقرون). هذا تخفٍ مشروعٌ، مرغوبٌ، سامٍ. هذا تنكرٌ محمودٌ، لأنه يغبّ من أحد خوفين أو من كليهما، الأول: هو الخوف على الناس، أو ربما منهم؛ إن انتفضوا على الجور ودفعهم الظلم إلى النكوص عن بيعتهم، أما الثاني: فخوفاً من الله، أو الدستور ... الدستور الذي وضع المسؤول في موضع المسؤول عن رعايته شؤون الخلق وحاجاتهم.   وهناك من يتخفى خوفاً على نفسه: من نفسه، و من الآخرين: ـ فيرسم ابتسامةً كاذبةً لرئيسه في العمل (الرسم المقصود غير ذاك الذي يدرس في كلية الفنون الجميلة). ـ أو يصنع مشاعر لا تراوده تجنباً لبطش الباطشين (الصناعة هنا تختلف عن المفهوم السائد المقترن بوزارة الصناعة أو الثورة الصناعية في أوربا). ـ وقد يتظاهر للحصول على مكسبٍ (التظاهر المعني لا يعني القيام بمظاهرة). ـ أو يمثل على زملائه كي يشي بهم (التمثيل هنا يتطابق تماماً مع ما يقوم به بعض أبطال الدراما السورية، سواءٌ في المسلسلات أو في حياتهم ومقابلاتهم). هذا تنكرٌ (منبوذٌ). أيضاً أساسه الخوف، فذو القناع خائفٌ "ممن" أو " مما " تقنع له، فارتدى برقعه.   ترى؛ لماذا اضمحل التنكر المحبوب، وفشا نقيضه المكروه؟ منذ متى لم نسمع عن وزيرٍ أو مديرٍ اكتشف خللاً ما، أو استوضح زيف ما تنقله حاشيته بأسلوبٍ شبيهٍ بما كان يقوم به أولو الأمر في سالف الزمان؟ أترانا مشغولون بصنفٍ من التنكر، فلا نجد متسعاً من الإرادة والنية والوقت لنمارس الصنف الآخر؟   يقولون: استحالة الجمع بين التنكرين (المحبذ و المنبوذ) كاستحالة التواجد في مكانين في ذات اللحظة، لأن العلاقة بينهما عكسية، كالعلاقة بين الخير والشر، والإله والشيطان، إن تبنيت الأول تعذر عليك تبني الآخر، تماماً مثل الكثير من المتناقضات التي يستحيل جمعها في آنٍ معاً...اللهم إلا في الحفلات التنكرية. لذلك؛ ولذلك فقط: قد تكون حياتنا ليست سوى حفلةً تنكريةً كبرى، تجمع نوعي التنكر المتناقضين بتوليفاتٍ ونسب مزجٍ بينهما تختلف من شخصٍ لآخر، وهذا الاختلاف في نسب المزج هو ما يميز الواحد منا عن سواه، ويعطيه هويته، ونكهته، و بصمته، و مراحل العمر ليست إلا تجاوزاً لأساليب التخفي، وتطويراً لأقنعتنا. و الشعوب كذلك، فهي في جوعها الأزلي للحرية ومطالبتها بها؛ إنما تطالب بتغيير الأقنعة، والارتقاء بالحالات التي تستوجب التنكر، و تبديل تقنيات التخفي بما يليق بمستواها الحضاري.   هل تعلمون كم من الأقنعة أرتدي و أنا أكتب الآن؟ آه ..لو تعلمون! ثم آهٍ... لو تعلمون كم من الأقنعة سوف أخلع، ثم أضع بسبب قرعٍ على الباب يجبرني على التوقف عن الكتابة؟ ثم آهٍ...لو تعرفون كم من البراقع عليّ أن أرتدي قبل فتح الباب، وأولها التظاهر بالفرح لقدوم الزائرين، و إيهام نفسي ثم إقناعهم بأنهم أهم من متابعة الكتابة في هذه المقالة...   ادعوا لي! ادعوا معي: يا رب!!!! أرجوك! أتمنى أن لا تكون القارعة حماتي، فهي لا تنفع معها كل أقنعة الدنيا. ولئن كانت القادمة حماتي؛ فهذه هي الحالة الوحيدة التي تجعلني أحسد الممثلين على قدراتهم التنكرية العظمى. نلتقي في حفلةٍ تنكريةٍ أخرى...   [email protected]