2013/05/29

«مريم» التاريخ يعيد نفسه في سمفونية عن الحب والحرب
«مريم» التاريخ يعيد نفسه في سمفونية عن الحب والحرب


فؤاد مسعد – الثورة

(مريم) ذلك الاسم المُشبع من عبق الماضي العريق للمنطقة (باللغة السريانية القديمة يعني السيدة المعلمة) والذي يحمل دلالاته ويعتبر محط تلاقي لدى مختلف الشرائح والفئات، كان عنوان الفيلم الذي قدم حكايات لثلاث شخصيات نسائية حملت كل منها اسم مريم،

مقدماً أفكاراً بقدر طزاجتها وآنيتها بقدر ما تضع الأصبع على الجرح في أكثر من محطة تاريخية، ومريم هنا هي الوطن والأم بكل ما تحمل من تجليات التضحية والصبر والحب والدفء.‏

(مريم) الفيلم الذي أخرجه باسل الخطيب وكتب له السيناريو بالاشتراك مع أخيه تليد وهو من إنتاج المؤسسة العامة للسينما بالتعاون مع شركة جوى، جاء تحية لروح الشاعر الكبير الراحل يوسف الخطيب الذي كانت جملته الأكثر تأثيراً مفتاحاً نلج من خلالها إلى أحداث الفيلم، فشكلت المبتدأ (لقد فقدنا كل شيء.. ولكن يبقى لنا الحب)، وعلى الرغم من أن الفيلم تناول ثلاثة أزمنة إلا أنه جاء فيلماً معاصراً في كل تفصيل وكل ركن من أركانه، عايش أوجاع الكثيرين، ترك أملاً في النفس مرة وألماً مرات أخرى.. لم يكن بعيداً عما يجري حالياً في سورية وحتى عما جرى ويجري في فلسطين، لامس كل عربي يحمل هماً عروبياً، مقدماً حكاية تحمل بعدها الانساني والوطني، كما تحمل الكثير من الدلالات التي يمكن قراءتها على أكثر من مستوى.‏

يروي الفيلم بشكل انتقائي قصص ثلاث نساء، أسماؤهن مريم عاشت كل منهن في زمن مختلف عن الآخر في سياق تاريخي صعب، ورغم الحروب والانكسارات استطعن الحفاظ على إنسانيتهن، مريم الأولى (لمى الحكيم) عاشت أواخر فترة الاحتلال العثماني (1918) وهي فتاة تحب شاباً ويتعلقان معا بفرس تكاد تموت لأن أقدامها غرزت في الوحل وبدأت تغرق فيه ولكن فجأة وفي لحظة من الزمن تنهض بقوة لتخرج من المستنقع بدافع قوتها الذاتية وإيمانها بأصالتها أما الفتاة التي حاولت دون جدوى العثور على مساعدة لا تلبث أن تموت حرقاً. وتدور قصة مريم الثانية (سلاف فواخرجي) فترة نكسة 1967 وبطلتها سيدة مسيحية من الجولان استشهد زوجها في الحرب، وفي أحداث النكسة تموت حماتها تحت القصف بعد رفضها الخروج من القنيطرة لرفضها النزوح مجدداً بعد أن خرجت من فلسطين ومازال أمل العودة في قلبها، تصاب مريم مع ابنتها زينة ثم تموت لكنها تأتمن ابنتها مع جندي يقوم بإنقاذها ويودعها أمانة لدى سيدة مسلمة،‏

وعندما تكبر نجدها تضع الصليب نفسه الذي كان لأمها وحمله لها الجندي في صغرها. مريم الثالثة (ديمة قندلفت) تعيش الزمن المعاصر وفي داخلها الكثير من الدفء، ترفض ما قام به والدها في إدخال جدتها لمأوى العجزة، هذه الجدة التي تعبر عن ذاكرة وضمير وموقف من الحياة حاولت الحفيدة الدفاع عنه.‏

دائماً القاسم المشترك هو مصائر الشخصيات، الأمر الذي تم التعبير عنه من خلال التداخل بين الحكايات والأزمنة وكأنما التاريخ يعيد نفسه، لا بل هناك رابط أيضاً من خلال الصلة التي وجدت بين الأجيال المتعاقبة، حيث ينكسر الزمن في لحظات تم اختيارها بدقة ليظهر ذلك الرابط الخفي بين الأزمنة المتباعدة أحياناً والمتداخلة أحياناً أخرى. فزينة التي تعمل في مأوى العجزة في الحكاية الثالثة هي الطفلة التي كانت في الحكاية الثانية وانقذها الجندي، كما أن الجدة هي شقيقة مريم التي احترقت في القصة الأولى.. إذا هو نسيج متكامل يجمع الحكايات ضمن وحدة عضوية في نص لم يعتمد طرح الأزمنة بشكل ميكانيكي فابتعد عن البناء السردي العادي في تقديم كل قصة منفردة لوحدها، وعمد إلى دمجها انطلاقاً من وحدة التواصل الوجداني ووحدة الألم والمعاناة والحالة الانفعالية في الحكايات الثلاث، فجاءت الأزمنة متداخلة كما الشخصيات والأحداث، مقدمة دلالاتها ومقولاتها بسلاسة وشفافية لا تخلو من المرارة. وقد حرص المخرج أن يأتي التداخل في الأزمنة بشكل سلسل حرص أن يمايز فيما بينها، لا بل كان داخل كل زمن هناك أزمنة اخرى ارتبطت بالذكريات، وذلك كله كانت له أدواته الفنية من لون وإضاءة وحركة كاميرا.. جعلت لكل زمن ولكل ذكرى روحها الخاصة التي لم تخرج عن الروح العامة للفيلم ككل.‏

جاء الفيلم بعيداً عن الثرثرة إن كان على مستوى النص و الحوار أو الصورة، فكان حواراً محكماً مليئاً بالدلالات وأحياناً الإدانات، وكثيراً ما حمل جملاً حوارية ترقى لمستوى الرؤى الفكرية، تقرأ الواقع المعاش وتعطي حكماً و رؤى. كما أثار العديد من الإشكاليات والجدليات، منها تساؤل الجندي (الواحد يموت من أجل وطنه أم يعيش من أجله ؟..) وكثيراً ما جاءت الإجابة على لسان الشخصيات لتؤكد أنها ليست شخصيات حيادية في الحياة وإنما هي مؤثرة لها دورها الفاعل وإن على صعيد محيطها القريب (هناك ناس تموت مشان ناس غيرهم يعيشوا)، أما مريم (سلاف فواخرجي) فتؤكد في حديثها عن الحرب أن البناء يمكن إعادة إعماره ولكن ماذا عن الخراب الذي يدمر الناس من الداخل ؟.. وليس بعيداً عن الدلالات التي حفل بها الفيلم جاء المشهد الذي غرزت به دواليب السيارة في الوحل، فجاء الجندي السوري الذي رأت فيه زينة أيضاً ذاك الجندي الذي انقذها في صغرها كي يمد يد المساعدة في دلالة أخرى تحمل روحاً وطنية عمن يحمي الحمى.‏

امتلك المخرج رؤيا إخراجية حشد من خلالها كل ما يمكن حشده لإظهار الفيلم بشكل مختلف تماماً عما سبق وتم إنتاجه، ليحقق مستوى فنياً راقياً وصورة ساحرة معبرة في العمق، أقرب ما تكون إلى صورة مرسومة بريشة تفيض شاعرية ورهافة، تذهب في العديد من الأحيان باتجاه الواقعية السحرية، أما كاميرته فجاءت تارة مقتحمة وتارة ترصد التفاصيل الإنسانية و تلاحق الوجع وتارة ثالثة تراقب عن بعد ملتقطة روح المشهد ناقلة من خلاله نبض الإحساس بما تتوهج به الروح، وضمن هذا الإطار يأتي الغرافيك الذي يظهر لأول مرة في فيلم سوري بهذا الاتقان، فسعى إلى توظيفه في الكثير من الأماكن ليضفي نوعاً من المصداقية ويشد المشاهد ويجعله في قلب الحدث متأثراً به، يعيشه بكل خفقة قلب وكل شهقة أو قطرة دم.. وبالتالي لم يقتصر استخدام المؤثرات البصرية والغرافيك على الخدع البصرية وإنما امتد إلى الكثير من مفاصل الفيلم، سعياً للاستثمار الأمثل لهذه التقنيات في تعميق الدلالات التعبيرية البصرية، والتي شكلت الموسيقا فيها أيضاً عاملاً مؤثراً ومحرضاً.‏

أما أداء الممثلين فكان رائعاً وخاصة الفنانات اللواتي جسدن الشخصيات الثلاث الرئيسية، فكان لدى كل منهن قدرة عالية على إيصال العوالم الداخلية للشخصية والتعبير عنها بكل خلجة من خلجاتها، فترجمت الفنانة سلاف فواخرجي ما تكتنز من غنى عبر ما امتلكت من أدوات تعبيرية وقدرة على عيش الشخصية فأتى أداؤها مفعماً بالحياة ينبض بالإحساس، أما الفنانة ديمة قندلفت فأضفت على الدور دفئاً خاصة يعكس ما تحمل من قيم ورؤى، كما تميزت الفنانة لمى الحكيم بشخصية أعطتها من روحها الكثير معبرة عن مشاعرها باقتدار، ويحسب للفيلم أنه جمع الكثير من الأسماء الهامة التي شكلت بحد ذاتها ثقلاً حتى في أدوار ضيوف الشرف كما هي الحال مع الفنان جهاد سعد، وهنا لا بد من الإشادة بكل من شارك من فنانين في الفيلم لأنهم قدموا أدوارهم بإحساس عالٍ.‏

لقد جمع الفيلم الكثير من الأبطال، فلم يكن الممثلون وحدهم هم أبطاله، وإنما الإخراج والقصة والحوار والأفكار والصورة والموسيقا والمؤثرات ومونتاج.. كل منها استطاع المخرج أن يحوله إلى بطل حقيقي يساهم في تقديم فيلم يحمل عوامل نجاحه بجدارة.‏