2012/07/04

نادين لبكي تثير الأسئلة الصعبة في وهلأ لوين؟ الإنساني والساخر سبيلاً لتمرير الرسائل الحسّاسة
نادين لبكي تثير الأسئلة الصعبة في وهلأ لوين؟ الإنساني والساخر سبيلاً لتمرير الرسائل الحسّاسة


علي وجيه – شرفات

في يوم السابع من أيار عام 2008، اشتعلت بيروت بشكل مفاجئ وسريع. مَن عاصر مآسي الحرب الأهلية اشتمّ رائحة الأجواء مجدداً بغض النظر عن التفاصيل السياسية وحيثياتها. المهم هو الإنسان هنا بفكره وهواجسه، بهاجسه الآني وتطلعه للمستقبل، بانشغاله الخاص والعام. في هذا اليوم العصيب اكتشفت «نادين لبكي» أنّها حامل، فيما كانت تبحث عن مشروعها السينمائي الثاني كمخرجة بعد «سكر بنات» (2007). على الرغم من النجاح اللافت الذي حقّقه هذا الأخير، إلا أنّ خريجة كلية الإعلام ومخرجة الفيديو كليب الشهيرة كانت بحاجة إلى المزيد لترسّخ وجودها كمخرجة سينمائية، بعد عملها التمثيلي في عدد من الأفلام الطويلة: «الأب والغريب» (2010)، «بوسطة» (2005) و«رماد» (2003)، والقصيرة: «الكلاب السبعة» (2005) و«مش فيلم لبناني» (2003). امتزج فرح الأمومة بالجو السياسي والواقع الميداني لينتج قلقاً مسبقاً على نشوء الطفل القادم في عالم كهذا، في مدينة كهذه، ضمن أسلوب تفكير إقصائي حسب الفرز الديني والطائفي. كيف تحمي شخصاً عزيزاً من ويلات الفتن وفظائع الحروب؟ من هنا كانت انطلاقة نادين لبكي نحو «وهلأ لوين؟»، بشراكة في الكتابة مع «جهاد حجيلي ورودني حداد» إضافةً إلى «توماس بيدجان».

إنّها قرية جبلية معزولة في الريف اللبناني. مقابر القرية الموزّعة على جانبَي فاصل بين الأموات المسيحيين والمسلمين تشي بوضوح أنّ الحرب مرّت من هنا. إيقاع نساء القرية الجنائزي وحركاتهنّ الموحّدة، وهنّ يتفقدن ابناً وأباً وشقيقاً وحبيباً وزوجاً، يدلّ على أنّ شبح العودة إلى الاقتتال ما زال متربصاً، يحاول عبور الممر الآمن وسط الألغام بين القرية وخارجها. علاقات النساء لم تتأثر بالرغم من كل شيء، فهنّ قادرات على التجاوز والابتسام، ويبدو أنّ همهنّ الوحيد منع الرجال من التشنّج مجدداً. الجامع بجانب الكنيسة، يخرج الأهالي منهما ليجتمعوا عند بثّ التلفزيون الوحيد في أعالي القرية، أو في مقهى مدام «آمال» التي تجسّدها «لبكي» بنفسها.

تبذل النساء كل ما يخطر وما لا يخطر على بال لإلهاء الرجال عن التفكير بالحرب، حتى لو تطلّب الأمر الاستعانة بنساء أوكرانيات للترويح عنهم والتجسس عليهم. الحشيش حل وارد أيضاً لإبعاد السلاح عن المتناول. لا بدّ من تجاوز الذات وتجاهل الأحزان الشخصية والانقلاب على المنشأ والمفاهيم. يجب الإتيان باجتراح غير متوقع والتفنن في أساليب التشتيت لتجنّب ما هو أفظع.

إذاً، هي المرأة مرة أخرى في أفلام «لبكي». المرأة الأوعى والحاضرة للمهام الصعبة وصاحبة المبادرة في كل مرة. كله يبقى دائراً في فلك الرجل، بسببه ومن أجله وفي سبيله. في «سكر بنات»، نرى تفاعل المرأة الشخصي والعاطفي مع الرجل بأشكال مختلفة. تعشقه وتبغضه، تبحث عنه وتتجاهله، تضحي من أجله وللخلاص منه. النهايات سعيدة وهادئة نوعاً ما، إلا أنّ فرحها ممتزج بحزن متراكم. التوجّه في «وهلأ لوين» أكثر نضجاً وحساسيةً في التقاط التفاصيل الخاصة والشخصية وصولاً إلى الموضوع العام الهام للغاية. النساء هنا يتجاوزن الهم الخاص، يتجاهلن رغباتهنّ الشخصية ونوازع الحب ويترفعن عن خسائرهنّ بغض النظر عن فداحتها لإنقاذ ما تبقى. يلامسن مرحلة الكفر بكل شيء أمام ما حدث وما يمكن أن يقع، دون الالتفات إلى الجدوى والنتائج العملية، فالنجاحات التخديرية والحلول الموضعية كافية الآن، ولو كانت بصلاحية زمنية محددة.

«عادل إمام وعمر الشريف» قدّما الموضوع الإسلامي - المسيحي في «حسن ومرقص» (2008) في معالجة للكاتب «يوسف معاطي» والمخرج «رامي إمام». بغض النظر عن السطحية والخفّة في بعض المفاصل الفنية للفيلم، إلا أنّ طرح الموضوع بحدّ ذاته مع الجرعة الشعبية التوعوية التي قدّمها تُحسَب له بالتأكيد. في «هلأ لوين؟» المعالجة أنضج وأعمق، والاستناد إلى حقبة تاريخية معروفة أكسبه أهمية أكبر لنبش الماضي والإسقاط على الحاضر والتحذير للمستقبل. المزج بين الواقع والخيال، للخروج بهامش من السخرية والكوميديا، جاء موفقاً وموظّفاً لتحقيق التوازن والابتعاد عن التحيّز وتمرير مختلف الرسائل بسلاسة. المهم أيضاً أنّه جاء ضمن توجّه إنساني لا سياسي، وهو الذكاء الذي أبعد الفيلم عن كل التشنّجات والحساسيات الممكنة. تقول «لبكي» في حديث صحفي: «لا تتعلّق المسألة بما إذا نجحنَ أم لا، بقدر ما ترتبط بالسياق المتكامل للحكاية.. أمورٌ عدّة تحدث في القرية، يراها المرء غريبة وغير ممكنة الحدوث في الواقع. هذا مقصود منذ البداية. هذا مطلوب أيضاً، لأني أرى أن السخرية حاجة ملحّة في حالة كهذه.. السخرية وسيلة لاستحضار القوّة، وتسخيرها لاستعادة العافية. أعتبر هذا الأسلوب ضرورة»، مؤكّدةً أنّ «الواقع خرافي بقدر ما هو سخيف وعبثي ولا منطقي. من هذا المنطلق، أحببتُ كتابة الفيلم. إذا ابتعدتُ عن السياسة، ولم يسمعني أحدٌ، أو لم ينتبه إلى أن الكيل طفح بي. إذا لم أشتغل في الشأن السياسي ولم أقتل أناساً. في الحالة هذه، أصنع فيلماً. الغضب موجود. الأسئلة أيضاً: ماذا نفعل؟.. هذا الغضب لا تستطيع أن تتركه في داخلك».

ثمّة شيء في الفيلم من الواقعية الإيطالية الجديدة والواقعية السحرية فيما يخصّ التيارات النقدية والأسلوبية، وهو ما أنتج عدداً من الأفلام اللبنانية اللافتة خلال السنوات الأخيرة. يمكن تلمّس ذلك من خلال تصوير «لبكي» في أماكن حقيقية، وعملها مع بعض الممثلين غير المحترفين، ومزج الواقع بالخيال، وتوريط الأغاني والموسيقا درامياً، وتقدّم الكوميديا دون إغفال اللحظات التراجيدية العالية. هذا كان حاضراً في «سكر بنات» أيضاً مع مراعاة تفاوت النسب والحالات. تبيّن لبكي: «هي تركيبة صعبة ومعقدة. مزج الضحكة بالدمعة هو من التحدّيات التي يقف أمامها المخرج عادةً. قبلتُ هذا التحدي وجازفتُ، وعلى ما يبدو نجحت».

في الطرح الفكري للفيلم، لا بدّ من التوقف عند شخصيتَي رجلَي الدين المسيحي والمسلم. بدا دورهما هامشياً بالمقارنة مع ما تفعله النساء، واقتصر فعلهما على المباركة وقليل من المشاركة دون إضافات أو مبادرة، على الرغم من تعلّق الموضوع بهما لدرجة كبيرة. وعيهما كان حاضراً نظرياً، فيما يبدو تجسيده العملي خجولاً. ردود أفعالهما وأسلوب حديثهما أقرب إلى الشخصيات الكرتونية، وهذا ما يطرح تساؤلاً عن جدوى ذلك وفيما إذا كان مقصوداً أم عرضياً.

من حيث الأداء، جاء مضبوطاً بشكل عام ولافتاً عند البعض. الاستعانة بممثلين غير محترفين تطلّب إعادة تصوير بعض المشاهد أكثر من مرة. مشهد الأم التي فقدت ابنها وهي تخاطب العذراء في الكنيسة من أجمل ما يكون حقيقةً. تؤكّد «لبكي»: «اخترتُ بعض الممثلين المحترفين للقيام بأدوار معينة تليق بهم، ولكنني أحب اللعب مع الواقع. أختار أشخاصاً واقعيين لهم أساليبهم الخاصة وقدراتهم التعبيرية الحقيقية في العمل، وغالباً ما تأتي النتائج كما أرغب وأتوقع».

في «وهلأ لوين؟»، تثبت «نادين لبكي» أنّها صاحبة مشروع سينمائي مهم ذي توجّه إنساني مؤثّر. دليل ذلك فوز الفيلم بجوائز عالمية رفيعة: «جائزة فرنسوا شاليه» في مهرجان كان 2011 عن فئة «أفضل فيلم روائي طويل» (عرض في المهرجان ضمن تظاهرة «نظرة ما»)، بالإضافة إلى تنويه من لجنة تحكيم جائزة «أوكومينيك»، ومؤخراً جائزة الجمهور في مهرجان تورونتو الدولي، وهي أعلى جائزة في المهرجان.

كل ذلك يجعل الجواب على عنوان الفيلم متوقعاً: «هلأ لوين؟».. يبدو أنّ ترشيحات الأوسكار القريبة هي الوجهة.

ملاحظة: التصريحات من صحيفتَي «السفير» اللبنانية و«الخليج» الإماراتية.

بطاقة الفيلم:

الاسم: هلأ لوين؟

تأليف: نادين لبكي، رودني حدّاد، جهاد حجيلي، توماس بيدجان.

إخراج: نادين لبكي.

تمثيل: نادين لبكي، ليلى حكيم، أنطوانيت النوفيلي، إيفون معلوف، جوليان فرحات، أنجو ريحاني، مصطفى سقا، مصطفى المصري، عادل كرم، سمير عوض، زياد أبو عبسي وآخرون.

موسيقا: خالد مزنّر.

المدّة: 110 دقيقة.

الميزانية: 6.7 مليون دولار.

الإنتاج: 2011.