2012/07/04

نزار أبوحجر: تحولت من ناطور المسرح إلى مديره
نزار أبوحجر: تحولت من ناطور المسرح إلى مديره

دمشق - علاء محمد

من ينظر يه يظن أنه يتم في هذه الفترة عامه الستين في العيش الكريم والرغد والسعادة وغير ذلك من مفردات، غالباً ما يعيشها الفنان السوري، لكن من يجلس إليه ويستمع إلى قصة حياته ومفرداتها، ثم ينصت إلى حديثه عن الكيفية التي بها تجاوز الأمية في سن متقدمة، ومنها إلى الحصول على شهادة الابتدائية فالإعدادية فالثانوية، ومن بعدها الجامعية ليصل إلى منصب مدير مسرح في دمشق سبق له في مرحلة الشباب أن كان يعمل فيه مستخدماً يكنس أرضيته ويصنع الشاي والقهوة للفنانين والموظفين، سيجد نفسه حتماً أمام رجل مختلف تمام الاختلاف عن أبناء اليوم . إنه الفنان نزار أبو حجر، وبلا خجل، قدم نفسه كاشفاً إحدى أهم الأوراق المجهولة في الأوساط السورية خلال العقود الثلاثة الماضية: “أنا الإنسان الذي تحول إلى مدير لمكان كان يكنسه” .

لا ندري ما إذا كان نزار أبوحجر هو الورقة المجهولة في القصة، لكن المعروف أن هذا الرجل الذي أصبح فناناً ذائع الصيت في الوسط الفني، عاش حتى ما قبل عشرين بقليل، أمياً لا يقرأ ولا يكتب، نعم إنه الإنسان الذي توفي أبوه وهو صغير، فكان لزاماً عليه أن يخرج إلى الشوارع للعودة مساء بما تيسر له من مال لإطعام أمه وأشقائه الصغار، فلم يجد سوى التجول في الشارع والحدائق ليبيع العلكة . . آنذاك كان يرتدي السروال التقليدي والقميص الذي لا يمكن استبداله ولو مرة واحدة كل خمس سنوات، حتى لو ضاق على جسده الذي كان يكبر بمرور الزمن، وكانت القبعة الشعبية تعلو رأسه ليظهر بمظهر رجل آت من العصر الحجري إلى المدينة بعد آلاف السنين على ظهور المدن بمعناها الحضاري .

طوال فترة بيعه العلكة في شوارع وأحياء دمشق القديمة والحديثة، لم يلتفت إليه أحد ليكتشف فيه موهبة مختزنة، فالشاري كان يشتري، غالباً، شفقة على الطفل اليافع كما يحصل اليوم مع أشباه نزار من الفقراء . . كان يشتري ويضع النقود ثم يذهب في طريقه، كما أن نزار لم يحاول، ولو مرة واحدة، أن يتكلم مع أي من الشارين بكلمة واحدة تتجاوز حدود عرض بضاعته المتواضعة، ربما لأنه لم يكن ليجرؤ على أن يكلم شخصاً هو عادي ربما، لكن عند نزار، كان كل الناس من طبقة النبلاء، فالثري يشفق عليه بشراء العلكة، وكذلك متوسط الحال، وحتى طلاب المدرسة . . كلهم سواسية . . كلهم يشفقون عليه .

في السابعة عشرة من عمره أراد نزار أن يفك أميته فتعلم في دورات محو الأمية عن تصميم وإرادة حديدية . . لم يكن يفكر في مجرد أن يقرأ اسم الصيدلية أو لافتات الأطباء والمحامين . . كان يدور في خلد هذا الشاب أن عليه أن يتغير وبأية وسيلة . ربما لم يؤمن أحد ممن كانوا يسمعون كلمة واحدة من نشرته الخيالية بأنه قد يصل إلى واحد في المائة مما كان يقوله .

لم يتوقف نزار يوماً واحداً عند إنجاز يعدّ لدى كثيرين، عظيماً، محو الأمية، بل اتجه مباشرة للدراسة الابتدائية، فلم يخجل من تقديم امتحان وهو في سن الشبان في منهاج يقرؤه من يصغرونه بعشر سنوات . . تقدم للامتحان ونجح وحصل على شهادة ربع سكان سوريا لم يحصلوا على أعلى منها، لكن ماذا بعد؟

سؤال آخر أجاب عنه نزار، بعد ثلاث سنوات فقط . . نعم ثلاث سنوات وكان نزار يحصل وبجدارة على شهادة الإعدادية “الكفاءة”، تلك الشهادة المتوسطة التي لا يزال السوريون حتى اليوم يقيمون احتفالات لأبنائهم عندما يحصلون عليها .

لم يسأل نزار بعد ذلك: ماذا بعد؟ . . فهو بات على مبعدة سنتين فقط من التقدم لشهادة الثانوية، ولو اقترب من الخامسة والعشرين من العمر، تقدم للثانوية، ونجح بتفوق، حيث حصل على علامات عالية مكنته من دخول قسم الفلسفة في الجامعة .

هذا هو نزار أبوحجر الذي كان ناطوراً لمسرح الحمراء في دمشق، يكنس الأرض ويحرس المسرح ليلاً ويقدم المشروبات للفنانين والموظفين فيه .

وفي المسرح نفسه كان نزار يعمل نهاراً ويدرس الفلسفة ليلاً وتقدم إلى الامتحانات عاماً بعد عام، حتى تخرج في ظرف أربع سنوات من دون أن يرسب في أي سنة ليتخرج، وهو مازال ناطوراً، لكنه ناطور، مختلف عن سواه فهو خريج جامعة، بعد ذلك حصل على الماجستير في الفلسفة وتحول إلى مدرس لمادة الفلسفة في ثانويات دمشق، ولم يكن قيده قد رقن في المسرح فهو الناطور قولاً واحداً، لكن شيئاً واحداً تغير وهو أن الفنانين راحوا ينظرون له نظرة مختلفة عن تلك القديمة، ولم يعودوا يجرؤون على طلب الشاي منه أو كنس المسرح وغير ذلك .

وفي عام 1987 أرشده الفنان والنجم الراحل عدنان بركات إلى التقدم لاختبار انتقاء ممثلين، ولأنه كان يثق بنفسه كثيراً بناء على تجاربه السابقة، تقدم للاختبار الذي أداره نجوم يعرفون من هو نزار، فنجح، ربما بجدارة، وربما لتقدير اللجنة المكونة من ممثلين على معرفة به وبتاريخه الكفاحي، لكنه في النتيجة نجح وأصبح ممثلا في الدراما .

بنجاحه تم تعيينه، وللمصادفة، أو للتقدير، من قبل وزيرة الثقافة آنذاك الدكتورة نجاح العطار رئيساً لقسم الدراسات والنصوص المسرحية في مديرية المسارح والموسيقا في وزارة الثقافة، ثم عاد بعد سنوات قليلة مديراً لمسرح الحمراء الذي كان يكنسه ويخدم القائمين عليه والموظفين فيه .

نعم أصبح نزار أبوحجر رأس الهرم في المسرح وبات الفنانون يأتون إلى المسرح كضيوف لدى المدير، فيطلب لهم الشاي والقهوة عبر جرس مكتبه، ويوقع لهذا موافقاً على طلب يقدمه له ويرفض لذاك، لقد تغير كل شيء، إنه القدر، والإرادة أيضاً .

روى لنا نزار أبوحجر بعض صور المأساة التي عاشها في الماضي، وكان قد قال لي منذ سنتين: “كم أمسكت المكنسة بيد والكتاب بيد، وكم أساء البعض معاملتي في تلك الأيام” .

لكنه روى أيضاً قيمة وجوده في المسرح وفضل تلك الفترة عليه: “لقد تعلمت الفن عندما كنت كناساً هناك . . حضرت مئات العروض المسرحية بحكم وجودي هناك، وعند الاختبار كنت أعرف ما هو المطلوب” .