2016/08/26

لماذا أشهرتْ خاتون مسدّسها؟
لماذا أشهرتْ خاتون مسدّسها؟

خاص بوسطة - بشّار عبّاس

في النصّ المسرحي "البطّة البريّة" كتابة هنريك إبسن (1828-1906) تقوم "هدفيج" بإطلاق النّار على نفسها، وذلك بعد أن يساهم صديق عائلتها "جريجرز" بكشف أنّها ابنة أبيه من علاقة غير شرعيّة للأخير مع أمّها التي كانت تعمل عنده، وليست ابنة صديقه "هيلمر" كما يظنّ الجميع، فيطلب منها أن تقتل البطّة البريّة لتبرهن لأبيها غير البيولوجي عن استعدادها للتضحية من أجله، وبدلاً من ذلك تقوم بإطلاق النّار على نفسها، النصّ يعود لعام 1884، وبعده بسبع سنوات يعود الكاتب إلى فعل درامي مُشابه في نصّ آخر يحمل اسم  الشخصيّة الرئيسة "هيدا غابلر" التي تعشق المسدّسين الذين ورثتهما عن أبيها، وبعد سلسلة من الحبكات النّاجمة عن اضطراباتها النّفسيّة، تنتحر بإطلاق النّار على رأسها.

 سيغموند فرويد سيكون له وقفة طويلة في تأمّل وتحليل نصوص إبسن؛ وسوف يستند عليها بقوّة في تأسيس بعض الجوانب من نظريّته في التّحليل النّفسي؛ المسدّس في القصّتين يُشير بقوّة إلى ذكورة مفقودة، أداة القتل تتقاطع رمزيّاً مع أداة الجسد، في تأكيد على الاغتراب العاطفي للمرأة، والقائم على الكبت الجنسي.

هناك أعمال دراميّة لا تُحصى، تظهر فيها المرأة مُحاربة، أو تعمل في الشّرطة، فهل يُمكن سحب الرأي نفسه عليها؟ هذا السّؤال عندما طُرح على فرويد، أجاب: "عندما تعاني المرأة من الكبت، ويكون حمل المسدّس فعل طارئ مُقحم على المتوقّع، فإنّها على الأغلب تريد امتلاك أسباب الذّكورة". إنّ مدارس النّقد الأدبي الأخرى العديدة، والتي لا تعتمد التّحليل النّفسي تتجاهل هذا الرّأي، وترى إلى الأمر أنّه ضمن سياق اجتماعي، نفسي، أدبي، وقصصي، غير أنّ الرّأي الفرويدي يبقى الأكثر أصالة وإثارة للتساؤل، ولكن ما شأننا نحنُ وهؤلاء؟ فلنترك هيدا غابلر والبطّة البريّة وفرويد والتّحليل النّفسي، ولندخل إلى عوالمنا القصصيّة نحنُ، ولتضع كل قارئة أو قارئ لهذا المقال قناعاً واقياً؛ سوف نبدأ.

 

إنّه لم تكد تبدأ الحلقة العاشرة من المسلسل الذي يحمل اسمها (تأليف طلال مارديني، وإخراج تامر اسحاق 2016)،حتّى أطلقتْ خاتون النّار، ليس عن طريق الخطأ، فهي لم تكن تنظّف خزانة الأسلحة، فأزاحت المسدّس، وحدث ما حدث، بل عن سابق تصوّر وتسديد؛ فأصابت ذراع الشخصيّة المضادّة، هذا التطوّر، من غير ريب، سوف يُقابَل بدهشة كبيرة، واستهجان من شخصيّات النّساء في باقي الأعمال التي أُصطلح على تسميتها "البيئة الشّاميّة" إنّ شخصيّة (أم جوزيف – منى واصف) في باب الحارة ليست صاحبة الريادة في سمات الشخصيّة الذّكوريّة، كونها مُقحمة من خارج عالم الحارة، خاتون هنا ابنة الزعيم، وهي من صميم عالم بناء القصّة. 

الطّلقة التي أصابت ذراع (عكّاش- باسم ياخور) اخترقت أيضاً المألوف عن سمات المرأة في الحارات؛ إنّها منذورة في هذه الأعمال لغرضين وظيفيين ثابتين؛ إمّا خاضعة ل"شور" زوجها بالمطلق، أو تعبث فيه خفيةً عبر الدسائس، وذلك في عالم موصد الأبواب، بهدف تأمين الشرّ الضّروري للصّراع الدّرامي.

إنّ الشرّ النّاجم عن المرأة يتكرّر في أربعة مسلسلات تشتمل على المحدّدات الصّارمة لهذا النّوع، الأوّل "أيّام شاميّة" (أكرم شريم وبسّام الملّا 1992) وفيه تؤدّي العداوة بين زوجتي (أبو عبدو- خالد تاجا) إلى إخفاء الشّوارب، مما يزوّد المسلسل بالصّراع الدّرامي الرئيسي، ثمّ في مسلسل "ليالي الصالحية" (أحمد حامد وبسّام الملّا 2004)عندما لا تنفكّ والدة المخرز تقنعه وتحرّضه، وهو الطيّب الشّهم الشّجاع، بأنّ الأمانة من حقّه، الثالث "باب الحارة" (عدد من الكتّاب والمخرجين 2006 – 2016)،في الجزء الذي حقّق له الشّهرة ينشأ الصّراع الرئيسي من تطليق الزوجة (أمّ عصام-صباح الجزائري)، وذلك جرّاء سجال مع جارتها، ورابعاً مسلسل "أهل الراية" ( أحمد حامد وعلاء الدّين كوكش 2008) عندما تقوم (دلال – كاريس بشّار) زوجة الزّعيم بصناعة الحبكة،عبر مكائد عديدة متسلسلة تبدّد أفراد أسرته.  

 

وهذا الشرّ يعود ويصدر الآن عن (نعمت - سلاف معمار) بتحريضها لخاتون على كلّ ما قامت به، وبترتيب ملابسات الحبكة، فما هي ضرورة استجلاب الشرّ الدّرامي حصراً من المرأة؟

 في الدّراما ثمّة حاجة إلى الصّراع، وفي قصص ذات مضامين قرو- وسطيّة لا بدّ من الشرّ الإنساني لتأمينه،ولأنّ واحداً من محدّدات أعمال البيئة الشّاميّة، هو أنّها تنطوي على مضامين دعائيّةPropaganda  للمجتمع الذي تتناوله، وترويج لنمط الحياة فيه، وتلميع لقيمه السّائدة، فسوف يعرقل هذه الطّبيعة الدّعائيّة أن ينجم الشرّ عن رجال مجتمع الحارة، وهم –دون النّساء - من يشكّل هذا المجتمع، فلا يأتيهم الباطل، بينما النّساء أغيار، لا ينتسبن للعائلة البشريّة، فإذا جاء الشرّ منهنّ، فالأمر مفهوم وعادي، ولا يعدو غلطة طبيعية قدرية غير مقصودة؛ هذا التصوّر لا يظهر فقط كفعل درامي، بل أيضاً جهراً وتصريحاً في الحوار، عبر اتّخاذ كلمة (حريمة) كشتيمة وسُبّة، في "أيّام شاميّة" يكتشف "العَضَوات"أن عيّنة الشوارب في المنديل، إنّما هي "شعر حريم" كما يؤكّد الحلّاق مستنكراً، وفي "ليالي الصالحيّة" يقول (المخرز- بسّام كوسا) لابن عمّه، وهُما على وشك منازلة "شو قلت ولاك حريمة"، وفي "أهل الراية" يكرّر (رضا الحرّ- قصي الخولي) قبل أن يقتل (حمدي أفندي – سليم  صبري) الأمر نفسه، فيقول "مين قلك أنّي خايف من الموت ولا حريمة؟ "،وفي "باب الحارة" يتكرّر ذلك عند كلّ "هوشة" تقريباً، أشهرها تلك التي شهدت عودة (الإدعشري – بسّام كوسا)إلى حضن الحارة، فيقول (أبو شهاب – سامر المصري) متحدياً (أبو ساطور- رامز عطالله) أنّه لن يسحب خنجره في النزال، لحظة وصول (أبو النّار – علي كريم ) الذي يبادر للقول "لأنّك حريمة" في معرض تهديده، فيأتي الإدعشري ليردّ: فشرت يا حريمة، وهنا في "خاتون" تُسمع هذه السُبّة مرّات عديدة.

فإذا كان الشرّ الدّرامي القادم من النّساء هو المُحدّد الأبرز لهذا النّوع، فما هي باقي محدّداته؟

هناك تسعة لا أكثر ولا أقلّ: الشرّ النّسائي كدافع للحبكة. الحيّز الجغرافي - الأنتربولوجي للقصّة. الدّيكور والملابس كفولكلور. اللهجة الدمشقيّة مع المبالغة في الأحرف الصّوتيّة. الشخصيّات الوظيفية من زعيم، عكيد، حارس، حلّاق، خبّاز، زعيم، خضرجي، قهوجي، وغيرها. الخطيئة العرضيّة التي إذا وقع فيها رجل من الحارة فيجب أن يرجع عنها قبل النهاية. الطّبيعة الدّعائيّة التّرويجيّة لنمط الحياة. الصّراع ذو الطبيعة الكاريكاتوريّة مع الأجنبي. وأخيراً: زمن القصّ الممتدّ افتراضيّاً بين أواخر القرن التّاسع عشر، مع سنوات الانتداب.

 

يمكن لمستوى الصّراع مع الأجنبي أن يتحوّل إلى سجال ونقاس بدلاً من القتال المباشر، ولكنّ هذا الأجنبي يبقى حاضراً ومضاداً للمصلحة العامّة، فينخفض الصّراع إلى حوارات بخصوص التّجنيد، أو ايجاد حلّ قانوني لشخصيّة مُلاحقة، كما في "ليالي الصّالحيّة" و" أهل الراية ".

أمّا المّحدّد التّاسع المتعلّق بزمن القصّ التّاريخي، فإنّه يختصّ بسمة إضافيّة؛ وهو أنّه زمن افتراضي، تتناوله القصّة بطريقة لا تاريخانيّة، فلا وجود لشخوص تلك الحقبة، ولا للأحداث الموثّقة من معارك ومعاهدات وحراك، لا ملامح لطبيعة ذلك الزمن من أحزاب وصحف وتحوّل اجتماعي ثقافي أخذت تشهده دمشق منذ مطلع التّاسع عشر، بلّ إن بعض الأحداث تخالف المعطيات التّاريخيّة، مثل قيام الأهالي بالهجوم على الإنكليز في آخر الجزء الثّاني من باب الحارة! أو حتّى المعارك الافتراضيّة العديدة التي يقدّمها مسلسل "خاتون" مع الفرنسيين، مع أنّها تاريخيّاً معروفة بالأيّام، والأمكنة، وأسماء المُشاركين فيها.

المحدّدات التّسعة الصّارمة لهذا النّوع، تجعل الأعمال التّالية تخرج من التّصنيف كأعمال بيئة شاميّة: مسلسل "أبو كامل"(فؤاد شربجي وعلاء الدين كوكش 1990) لأنّه لا ينطوي على مضامين دعائيّة ترويجيّة، ومثله "بسمة الحزن "( ألفة الأدلبي ولطفي لطفي 1992)، أمّا "الخوالي"(أحمد حامد بسّام الملّا 2000) فيخرج من التّصنيف لاعتنائه بتفصيل تاريخي بطريقة الديكودراما، وهو رحلة الحجّ الشّامي، و"الحصرم الشامي "( فؤاد حميرة وسيف الدين سبيعي 2007) لأنّه يستند على مرجع تاريخي "البديري الحلّاق"، ومثله "حرائر" (عنود الخالد وباسل الخطيب 2015) لأنّه يتضمّن شخصيّة ماري العجمي التاريخيّة، وأيضاً "بواب الريح" (خلدون قتلان والمثنّى صبح 2014) كونه يُراعي -إلى حدّ ما-  أحداثاً تاريخيّة معروفة ويقدّم تفاصيل من فتنة 1860.

خاتون بإطلاقها النّار لم تكن تدافع عن أخيها فقط، ولكن أيضاً عن النّوع نفسه، فقد باتَ مهدّداً بالزّوال، بسبب ثبات وجمود محدداته، هذا يبدو شبيهاً بمشكلة تعرّض لها الويسترن الأمريكي، وهي المحدّدات الثّابتة والصّارمة؛ إنّها في الويسترن هكذا: حيّز جغرافي محصور بين غرب المسيسبي ومشارف حواضر الشاطئ الغربي، المعارك والعنف، اللهجة، الديكور والأزياء، الفترة الزمنيّة من النصف الثّاني للقرن التاسع عشر حتّى 1912؛ إنّ سهولة استنساخ قصص جديدة ضمن نفس النوع، إذا كانت محدداته صارمة وثابتة، وذلك كوصفة قصصية تضمن الرّواج، يجعله مُتاحاً للتّقليد، ولإعادة القصص المتشابهة، أي: للوقوع في التّكرار والتّنميط، مما يؤدّي إلى قصر عمر رواجه، الأمر الذي لا ينطبق على الأنواع العريقة ذات المحددات العريضة قليلة العدد، والموروثة عن المسرح والرواية، كالكوميديا، التراجيديا، الرومانس، والمغامرات أو الرحلات، وغيرها. 

 

إن المحددات الصّارمة لأعمال البيئة الدمشقيّة، تبلغ من الثّبات، والصرامة، أن يتكرّر فيها ليس فقط استجلاب الشرّ من شخصيّات النّساء، بل وأحياناً كثيرة اقتراح ذات التفسير للشرّ؛ إنّ (نزيهة – وفاء موصلّي) في أيام شاميّة، و(سعديّة – كاريس بشّار) في ليالي الصّالحيّة، و(دلال – كاريس بشّار) في أهل الراية، و(نعمت – سلافة معمار) في خاتون، يصدر الشرّ عنهنّ للسبب نفسه: عدم الإنجاب!

إنّ إعطاء الزعيم(أبو العزّ – سلوم حداد) مسدّساَ لابنتيه، كأداة دراميّة ذكوريّة - إن لم تكن ذكوريّة وفق رأي فرويد، فإنّها كذلك على مستوى طبيعة المجتمع المقترح في هذه الأعمال - كان محاولة حثيثة لضخّ دماء دراميّة جديدة في عروق النّوع؛ إنّها ستهرب من عرسها إلى شاب تحبّه، وتُشهر خنجرها مهددة بالانتحار دفاعاً عنه، ثم تحاول مساعدته في الهروب بإطلاق النّار على أصفاده وتحطيمها قبل مقتله بقليل، ذلك يُشير إلى تحوّل جذري على نوع من الواضح أنّه يحاول إطالة عمره، وتأخير نمو بذور فناءه الخصبة، فسمات المرأة فيه هي المُحدّد الأخطر، وعليه يستند الكثير من المحدّدات الأخرى، والتي إذا ما تعرّضتْ للمساس انهارت، وتحوّلت إلى نوع جديد مُفارق، الأمر الذي يجعل من إقحام هذه الإضافات للخروج من المأزق، تسريعاً في الوصول إليه.