2016/10/20

مسلسل هيَ ودافنشي: الانفلات من قبضة الحارة المصريّة
مسلسل هيَ ودافنشي: الانفلات من قبضة الحارة المصريّة

خاص بوسطة - بشار عباس

هذا المقال من ثلاثة أجزاء

1- تمهيد:

سوزان مبارك زوجة الرّئيس المصري الأسبق لم يعجبها مسلسل عائلة الحاج متولّي ( مصطفى محرم، ومحمد النقلي 2001) فأمرتْ بإيقاف الجزء الثّاني في مرحلة الشّروع بكتابته،ومعه احتمال أجزاء جديدة؛فحدث أن توقّفت المحاولة الأكثر جديّة لمُجاوزة الحارة في الدّراما التلفزيونيّة المصريّة،ولكنّ الكثير من محددات هذا المسلسل استمرّت لاحقاً قرابة عقد ونصف العقد في أنموذج درامي – لا يرقى لتسميته نوع - يدمج قسريّاً ما لا يمكن دمجه:الحارة مع الفيلا.

إنّ مسلسلات الأرياف – الرّيف ككل مع الصّعيد وليس فقط ما يلي شمال القاهرة - كمُجاوزة للحارة لم ترقَ إلى المستوى الذي يظهر فيه هذا الريف على الشّاشة الكبيرة، كما على سبيل المثال في الفيلم - التّحفة : زيارة السيّد الرّئيس ( كتابة يوسف القعيد وبشير الدّيك) أو كما يظهر عند غيرهم أيضاً من روّاد ما يُعرف بمرحلة ما بعد نجيب محفوظ، فالتّناول الفيلمي الجيّد لهذه الموضوعة لم يمتدّ إلى الدّراما التلفزيونيّة، ولم تُشكّل مقابل للحارة يعوّل عليه، فبقيت الهيمنة للأخيرة؛ المُجاوزة الأخرى لها كانت على مستوى المكان بصرف النّظر عن القصّة؛ يُمكن افتراض أن مسلسل "الخطيئة" ( فداء الشندويلي، وأحمد سليم فرج 2014) هو الأنموذج المعبّر عن هذه المُجاوزة على طريقة أعمال عديدة سابقة عليه، كانت قد أخذت هذا الشّكل منذ النّصف الثّاني لعقد الألفين؛ الفيلا والمسبح في مقابل الزّقاق، التفكك الأسري والخيانة الزّوجيّة مقابل الروابط المكانيّة والأسريّة، الطبقة الثريّة ثراء محدث، مقابل الأرستقراطيّة والوسطى معاً في الحارة، هذا التّجاوز يعتمد أوّلاً على مواقع التّصوير الّتي تمنح قطيعة بصريّة مع الحارة منذ لحظات المشاهدة الأولى، يُضاف إليها عنصر الأغراض ودلالاتها من ملابس غربيّة، وسيّارات فارهة، وهذا المقصود بأنموذج "الفيلا" الصّرفة.

لقد نهض مسلسل الحاج متولّي بانقلاب على الحارة من داخلها، فكثيراً ما يكرّر الحاجّ في الحوار أنّه لن يغادرها،وكذلك في مشاهد محلّ الأقمشة ذات التّصميم الموحي بالمكان، ولكنّ جوهر منزله من الدّاخل، وسلوكه كشخصيّة، وملابسه، وشعره المصبوغ أيضاً كلها تقترب من "الفيلا" كما أنّه يحتفظ كشخصيّة ببعض  سمات الحارة، أمّا بعضها الآخر فتتنافر إلى درجة الصّراع؛ يمكن وضعه على التّضاد الشّخصاني مع " سي السيّد" أو أحمد عبد الجواد،الشخصيّة الرئيسة في الجزء الأوّل من ثلاثيّة محفوظ "بين القصرين" وهو العمل الّذي هيمن،بالاشتراك مع ليالي الحلميّة، على الدراما التلفزيونيّة المصريّة، وهما معاً أطلقا أسطورة الحارة، الّتي وأن كانت قد ظهرت قبل ذلك، غير أنّها مع هذين المسلسلين كُرّست كوصفة للأعمال الجيّدة.

إنّ " سي السيّد " ملتزم بزوجة واحدة،ويتدبّر ميوله الغراميّة في بيت سرّي بعيد عن الأنظار،بينما متولّي رجل لعوب مزوّد بلقب " الحاجّ " ينتقل  من زوجة إلى أخرى جديدة؛سي السيّد مُحبّ للعلم،يزجر ابنه ويوبّخه خوفاً أن يؤثّر نشاطه السياسي على جامعته ويدفعه دفعاً لدراسة الحقوق،بينما متولي عدوّ للعلم،لا يؤمن بغير المال،فيضطر ابنه لدراسة جامعته بالسرّ كما الخطيئة،متولّي والذين معه ليس لديهم أي نشاط أو رأي في الأحداث السّياسيّة الرّاهنة،ولا يُعلم من القصّة من يَحكم مصر؛هل لم يزل المماليك فيها،الإنكليز،أو الحزب الوطني،أمّا سي السيّد وأولاده فلديهم ميول ومشاركة سياسيّة واضحة،لقد هجر الأخير زوجته لأنّها خرجت لزيارة " الحسين" من دون إذنه،بينما الحاج متولّي يُرسل ابنه للتجسّس على زوجته الأخيرة الرّابعة الشّابّة؛هذه السمات المضادّة أطلقت "سرطان دراميّ" داخل الحارة المصريّة الشعبيّة،فأخذت تنحو إلى حارة " استهلاكيّة"،رُفعت قوائم الفيلا ضمن أزقّتها،في استبدال للتّشويق القصصي بتّشويق جنسي محصّن من الانتقاد،كون العدل الاستهلاكي قائمٌ بين الزّوجات،وتحت وارفٍ على إنفاق من أحسن ما يرام .   

هناك هدفان للحاجّ متولّي كشخصيّة:مزيد من المال،ومزيد من الزّوجات اللائي يتشاجرن فيما بينهنّ بصيغة أقرب إلى المزاح الودّي:من الّتي دورها اليوم في النّجاح معه إلى المخدع؛ذلك ما دفع سوزان مبارك وقتئذ إلى وقف مشاريع الأجزاء الجديدة،المرأة المتزعّمة لأنشطة حقوق المرأة،والمولودة لأمّ إنكليزيّة – ليلي ماي بالمز – وجدتْ في  تلك الموضوعة أمراً مضاداً لنشاطها،ولتربيتها الأنغلو - ساكسونيّة بطبيعة الحال.

ثمّ إنّ الدراما المصريّة التلفزيونيّة أخذت تراوح بين النّماذج الثّلاثة؛الأرياف كفرجة أنتربولوجيّة ومضامين قرو - وسطيّة،والفيلا كحداثة على المستوى البصري،والحارة الّتي انخفض مستوى قصصها،فلم يعد فيها غير الدّيكور؛ذلك هو سبب نشوء " الكليشيه" في الفنّ على العموم؛الحطّاب النشيط الّذي صنع ثروة فقط بفأسه،فظنّ الحاسدون من أخوته أنّ الفأس هي السّبب فسرقوها،ويشبه أيضاً أن تنجح مسرحيّة ما،فيأتي من يستأجر صالة العرض والدّيكور لتحقيق النّجاح؛المشكلة ليست هنا فحسب؛إنّ الّذين حاولوا تجاوزها فعلوا ذلك بنفس المنطق؛فتجاوزا الدّيكور إلى ديكور مخالف آخر جديد؛محاولة لقطع الشّجرة بالضّرب على ظلّها،وفي ذلك إنّما يُمكن النّظر إلى تجربة مسلسل الحاج متولّي،لقد بقيت الحارة،وتمّت الاستفادة من أجوائها الحميمة،ثمّ وُضعت جانباً على هامش القصّة،محدّدات هذا العمل كانت الأساس لأنموذج " الحارة – فيلا "،أو بتعبير آخر:فيلا مزيّنة بفولكلور من عالم الحارة.

الأنموذج السّابق يقوم على طريقتين:إمّا بزرع الفيلا داخل الحارة،أو بالتّقطيع المونتاجي بين العالمين على افتراض أنّهما على مسافة،يمكن تلمّسه بوضوح في أعمال كثيرة من الموسم الماضي 2015،منها على سبيل الذّكر وليس الحصر:وش تاني ( وليد سيف،ووائل عبد الله ) و بين السرايات(أحمد عبدالله وشادي يسري) و حواري بوخارست(هشام هلال،ومحمد بكير) و مولانا العاشق( أحمد عبد الفتّاح،وعثمان أبو لبن) يا أنا يا أنتي (فتحي الجندي،وياسر زايد )، تفاقم ظهور هذا الأنموذج في موسم العام المنصرم،يوحي بأنّه يُخرج كلّ ما لديه دفعة واحدة،وذلك إذا ما نُظر إليه كونه السّابق بعام واحد فقط على هذا الموسم 2016،الأخير جاء بأعمال نوعيّة تشكّل محاولات حثيثة لنهضة جديدة،وتحوّل مفارق .

إذا كان معيار "الأصالة" هو الأكثر وجوباً بالأخذ في الحسبان،وذلك عند الاقتراب من أسباب نشوء وهيمنة ظاهرة الحارة،كونه الحاضر بقوّة في عملين رسّخا هذه الهيمنة،وهما " الثلاثيّة" و " ليالي الحلميّة" كما ذُكر سالفاً،فإنّه حريٌّ بهذا المعيار أن يكون هو الحاضر أيضاً عند اقتفاء أثر المحاولات الناجحة لهذا الموسم بالانفلات من (الحارة) الصّرفة،أو الانفلات من المحاولتين الضّعيفتين لمجاوزتها سابقاً : (الفيلا) الصّرفة،أو (الحارة –فيلا)؛الأمر يتطلّب أصالة قصصيّة جديدة مقابل أصالة قصصيّة سابقة،هكذا إنّما يمكن الفكاك من الحارة،وليس ب"كليشيه" مقابل أصالة،أو بكليشيه مقابل كليشيه،مما يتطلّب مروراً موجزاً على أفضل دزّينة مسلسلات – التّقييم وفق ادّعاء كاتب هذا المقال – ظهرتْ في رمضان الفائت،ومن ضمنها يجب التوقّف بتركيز عند مسلسل أفراح القبّة،الّذي رغم نجاحه "الإعلامي" إلّا أنّه يفتقر بشدّة إلى الأصالة،وذلك قبل الوصول أخيراً إلى مسلسل"هي ودافنشي"( محمد الحناوي،وعبد العزيز حشّاد) الّذي يمتلك كثيراً من مقوّمات الجذب القصصي،والإبداع المفارق المُبهر على مستويات:الحبكة،الشخصيّات،الحوار،والخروج عن المألوف،سواء المألوف في الواقع القصصي،أو المألوف لدى نماذج الأعمال التّلفزيونية السّائدة.

وفق معيار الأصالة يمكن تنحية مسلسل فندق غراند أوتيل (تامر حبيب،ومحمّد شاكر خضير) كونه نسخة مصريّة مستحدثة عن مسلسل اسباني يحمل نفس الاسم،ومثله مسلسل ليالي الحلميّة في نسخته الجديدة،والذي لا يرتبط مع ذلك القديم بغير الاسم؛فظهر كمحاولة لبيع مُنتج جديد بماركة قديمة مع لملمة بائسة لما تبقّى من نجوم شاركوا في صناعة هذه العلامة سابقاً ،فاندفع المشاهدون تحت وطأة سحر الاسم،ثمّ إنّهم انفضّوا سريعاً وقد تبيّنوا أنّ كتابة كلمة "ذهب" على حجر،لا تجعل منه ذهباً .

ولكن مهلاً ! ما بالنا نستعمل كلمة "أصالة"،ونتّخذها معياراً وكأنّها واضحة،فقبل تكملة المرور على المسلسلات الثمانية المتبقيّة،لا بدّ من جلاء معناها،فالكثير من مثقفي هذه الأيّام يعتقدون أنّ المقصود بالأمر هو نوع من الخيول الجيّدة؛لا يجب تشجيعهم على الاستمرار بهذا الرّأي،فالتّكرار الكثير لكلمة ما يدفع على الظّنّ أنّها مفهومة،بسبب نوع من ألفة ينجم عن ذلك.

يرى ابن منظور في لسان العرب،عن أبي منصور الأزهري في تهذيب اللغة أنّ (الأصَلَةَ) على وزن (الفَعلة) هي حيّة حمراء لها رجل واحدة تقوم عليها وتساور الإنسان،راجلاً أو ممتطياً،وتنفخ فلا تصيب شيئاً بنفختها إلّا أهلكته،من الواضح أنّه كائن أسطوري،وعلى هذا يستند ابن جنّي في أنّ الرّأي الأصيل هو الّذي لا يمكن الوقوف أمامه فيبزّ السّامعين،ورجل أصيل:ثابت الرأي عاقل،ونخيل أصيل في أرض ما:لا يزال فيها ولا يفنى،وأصل الشّيء أسفله،وبلا  أصل:بلا جذور،ونسب أصيل:لم يدخل عليه فرع أجنبي،ما سبق كان الأساس في استعمال كلمة أصالة بالمعنى المعاصر:القدرة على التّفكير بشكل مستقلّ وخلّاق؛يمكن الآن تكملة المسلسلات الثمانية المتبقية.

إنّ مسلسل الخروج ( محمد الصفتي،ومحمد جمال العدل) يستجلب نوعاً فيلميّاً شهيراً وهو البوليسي،غير أنّه في تناوله لكليشيه القاتل المتسلسل Serial killer  يبتعد بشكل ملموس عن الأصالة،ليس فقط بسبب محاكاة أسلوب التّشويق لأفلام الحركة ،بل أيضاً لأن القاتل المتسلسل موضوع بعيد عن المجتمعات العربيّة،فهو أسطورة صحفيّة ملموسة بقوة في الصحافة الأمريكيّة الصّفراء،ومنها انتقل إلى عالم الفيلم،ثمّ في عالم الفيلم أصبح راسخاً وقابلاً للتّصديق .

فوق مستوى الشّبهات (تأليف:عبد الله حسن وأمين جمال،إخراج:هاني خليفة) عن أستاذة جامعية متخصصة في التنمية البشرية،اضطرابها النفسي يلحق الأذى بكل من حولها،وهذه محاكاة تلفزيونيّة لنوع السّايكو الفيلمي،العمل مشوب بأنموذج الفيلا،وفيه استناد قوي على ظاهرة رائجة مؤخّراً،وهي الاعتماد على نجم سينمائي في مسلسل لترويجه.

ظاهرة النجم السّينمائي في عمل ضعيف،تمثّلت أيضاً في مسلسل  مأمون وشركاه(يوسف معاطي،ورامي إمام) بطولة النّجم عادل إمام،رجل بخيل لديه أربعة أبناء يحرمهم وأمهم،يكتشفون أنه ملياردير فتبدأ رحلة البحث عن أمواله المخفيّة،ومثله مسلسل رأس الغول (تأليف وائل حمدي وشريف بدر الدّين،إخراج أحمد سمير فرج) عن شخص بارع بالاحتيال يتمّ اعلان مكافأة للقبض عليه ؛إنّ لقاء تلفزيوني عادي مع عادل إمام أو محمود عبد العزيز سوف يحقق نسبة مشاهدة عالية،لنفس الأسباب الّتي تحقّقها هذه النّوعيّة الّتي تعتمد بدرجة كبيرة على أسطورة النّجم نفسه؛نجم شبّاك التّذاكر.

الكارثة كانت مسلسل "المغنّي" (تأليف محمد المحمدي وأحمد يحيى،إخراج كريم مدحت) قصة حياة محمد منير؛سؤالان كبيران يُطرحان على عمل السّيرة الذّاتيّةBiography  هذا:كيف يمكن عرض سيرة حياة شخص قبل موته فهي لم تكتمل؟وكيف يقوم هو نفسه بأداء شخصيّته؟الفكرة تعتمد على شهرة المغنّي نفسه،وضمان تحقيقها للتّرويج،بطريقة تقترب من الاعتماد فقط على النّجم السّينمائي؛جمهور أغانيه جاهز لمتابعة هذا العمل.

أبو البنات (أحمد عبد الفتّاح،ورؤوف عبد العزيز) عن رجل يملك معرض سيارات في صراع مع رجل أعمال وسبب الخلاف تجارتهم القديمة في المخدرات قبل أن ينفصلا،واضح بالأجواء الأسريّة .

مسلسل الأسطورة (محمّد عبد المعطي،ومحمّد سامي) عن شخصيّة يقيم في حيّ السبتية يريد الانضمام لسلك القضاء ولكن سمعة شقيقه الذي يعمل تاجراً للسلاح تحول دون هدفه،يتم رفضه،فيتورط بعدها في الإجرام؛هذا العمل فيه محدّدات " الحارة"،وقد هُجّنت هذه المرّة – بدلاً من الفيلا - بأجواء التّشويق والجريمة  .

مسلسل القيصر(محمد ناير،أحمد نادر جلال) عن  شخص لديه قدرات فائقة،ومرتبط بجماعة إسلاميّة يتولى زعامتها يُحاصَر بأحد أنفاق رفح  من الشرطة؛إنّ هذه الأعمال تعاني سطوة " المقولة" التي تقترب من البروباغاندا،وتعتمد أيضاً على رواج موضوعات وأخبار الجماعات الإرهابيّة؛فيبتعد في كثير من الأحيان عن الشخصيّة لصالح الموضوع.

إنّ كلّ من الأعمال العشرة السّابقة ينجح بالخروج جزئيّاً أو كليّاً،من سطوة (الحارة) أو (الحارة - الفيلا) وهي معاً كانت لتبدو أكثر أصالة لولا مسلسل "هي ودافنشي" الذي تفوّق عليها جميعها،ولكنّ قبل تناوله يجب المرور على " أفراح القبّة " لإزالة أوراق الصّحافة البرّاقة الّتي ساورته،وللجواب على سؤال:لماذا يفتقر إلى الأصالة؟

الجزء الثّاني من المقال يُنشر لاحقاً .