2012/07/04

نهاية «ضيعة ضايعة» درسٌ في الإبداع الدرامي
نهاية «ضيعة ضايعة» درسٌ في الإبداع الدرامي

عهـد صبيـحة – تشرين دراما

يقفُ المخرج الليث حجو مذنباً من دون محاكمة، فبعد النهاية المأساوية التي أصابت أبناء قرية أم الطنافس في آخر

حلقة من المسلسل المميز «ضيعة ضايعة»، قامت الدنيا ولم تقعد واتّقد حماس الجمهور رافضاً هذه النهاية ومحمِّلاً

المخرجَ المسؤولية، ومتهماً إياه بقتل شخصيات لا يمتلك الحق في قتلها! لكنني، وبعد مشاهدة متأنية للحلقة

الأخيرة، أجد نفسي مهتماً أن أقدم هذا التحليل المبسّط لهذه النهاية لعلّني أزيح غباراً، أو... أبدي رأياً

أسأل أولاً، من قال إن النهايات المأساوية تتعارض مع أي عمل كوميدي؟ ومن فَصَل، عبر التاريخ، بين الكوميديا

والتراجيديا باعتبارهما جنسين منفصلين.. تماماً؟ ‏

الكوميديا والتراجيديا وجهان لعملة واحدة، تمضيان ملتصقتين دائماً، وأعمالنا الدرامية (في التلفزيون والمسرح

والسينما) ذَخَرت، على مدى الزمن، بأمثلة كثيرة على ترابط التراجيديا بالكوميديا، وليس أفضل من دريد لحام ليمثل

هذا الترابط العجيب بين ما يضحكك ويبكيك في آن، بل أكاد أجزم أن أجمل لحظات الكوميديا في تاريخ السينما

والتلفزيون هي تلك التي جمعت في حناياها ضحكة ودمعة، أليست نهاية عبد الودود في «الحدود» مأساوية؟ أليست

نهاية عزمي في «التقرير» مأساوية؟ أليست نهاية غوار في «وادي المسك» مأساوية؟ لقد قدّم دريد لحام في

نهايات الأعمال التي ذكرتها نماذجَ رائعة في الكوميديا السياسية الناقدة والساخرة و..الساحرة، ولا أظن حجو وحمادة

خرجا عن هذا الخط المتميز للكوميديا. ‏

كما أن مسرحيات كبار كتاب المسرح في العالم أمثال (اسخيلوس، سوفوكليس، شكسبير) فاضت بأمثلة راقية عن

التقاء الكوميديا بالتراجيديا في نصوصهم. ‏

يقول كريستوفر فراي ( كاتب مسرحي إنكليزي 1907-2005): ‏

«عندما أشرع في كتابة كوميديا، فإن الفكرة تطرح نفسَها أولاً وقبل كل شيء كتراجيديا، فتضطلع الشخصيات

بالموضوع مثقلة بكل انقساماتها وحيرتها... فإذا لم تكن الشخصيات مؤهلة للتراجيديا فلا سبيل أن تصبحَ كوميديّاً،

وإنني لأضطر إلى حد ما، إلى أن أعبر أراضي التراجيديا قبل أن أنزل إلى أرض الكوميديا». ‏

في مفردات الحلقة الأخيرة، يدفن «أبو شمله» مجموعة من البراميل داخل بئر في قرية أم الطنافس، وبعد مراقبة

«جوده» و«أسعد» لعملية الدفن يقرران الحصول على محتويات البراميل معتقدين أنها علب دهان. يقوم الاثنان بتوزيع

هذه العلب على جميع أهالي القرية، الذين بدورهم يدهنون بيوتهم بها، لينتهي الأمر بهم في مستوصف القرية

منتظرين مصيرهم الأسود بعد تسممهم جميعاً بالإشعاع الناتج عن هذا الدهان الذي اتضح أنه مواد نووية قاتلة. ‏

مع أن حبكة الكاتب ممدوح حمادة اعتمدت في كل المسلسل على حكايات منفصلة متكئة في جوهرها على

مغامرات شخصيات أم الطنافس، وخصوصاً شخصيتي المسلسل «أسعد» و«جوده»، لكن تفاصيل الحلقة الأخيرة

جاءت متمّمة، بتطور شخصياتها وحدثها الدرامي، وبشكل محترف، لكل النقد السياسي الذي أُشبـِع درامياً في كل

الحلقات التسع وعشرين السابقة، كما جاءت منسجمة مع مقولة الحلقة بأن ثورة التكنولوجيا سحبت في طريقها تلك

القرية التي «لم تعد كذلك». ‏

فأهل القرية اتفقوا أخيراً على الوقوف ضد هيمنة أبناء قرية التخريمه الفوقا، الذين يعملون بالتهريب، وضد علاقة

الفساد والمصلحة بين المخفر و«أبو شمله»، وتأتي المفارقة أنهم باتفاقهم الأخير هذا حفروا بأيديهم نهاية ضيعتهم،

لتصبح فعلاً اسماً على مسمى «ضيعة ضايعة»، حيث يجتمع أهل الضيعة كلهم في المستوصف مرضى عاجزين

كمثال عن ضياعنا نحن أبناء الحضارة، وليتوه المتفرج بين مفهومين؛ ضياع الضيعة الأصلي ببعدها عن مظاهر الحضارة،

أي عندما كانت عذراء بريئة، وبضياعها عندما لم تعد كذلك. على كل حال لا يزال مفهوم الحضارة مثار إشكال في وقتنا

الحاضر، واستطاع المؤلف تقديم هذا الإشكال تجاه هذا المفهوم مرة واحدة وبجرعة مكثفة ناجحة خلال الحلقة

الأخيرة. ‏

تقف شخصية «أبو شمله» محورية في آخر حلقة كما كانت في كل الحلقات، فهو الوجه الآخر لشخصيتي «أسعد»

و«جوده»، هو، المهرّب، الفراري، الخارج عن القانون الذي يعرف ما يريده، ويقدم في كثير من الأوقات الحلول الناجعة

لأبناء أم الطنافس ليخرجوا من محناتهم، وهو العارف بخبايا العلاقات مع الحكومة، لكنه في آخر حلقة يُواجَه بحقيقته

عندما يبصق عليه أبناء أم الطنافس في لحظة الحقيقة. يظهر «أبو شمله» في النهاية حزيناً نادماً ومدعياً. ‏

مفاهيم أخرى حساسة الطرح لم تكن غائبة عن آخر حلقة من المسلسل، منها مفهومي (المواطنة) و(حرية الرأي)،

وهذان المفهومان كانا قد خضعا للنقد والتفنيد طوال حلقات المسلسل، وأهمها عندما لم يتمكن أبناء القرية، بعد

صدور قرار بمنع التملق، من فهم معنى التعبير عن الرأي بصراحة، وعجزوا بعد محاولات عديدة عن إدراك «منع

التملق» واتضح لهم أنه يعني عدم التكلم ففضلوا السجن طواعية في نهاية الأمر لعدم قدرتهم على تنفيذه، وفي

لوحة أخرى، افتعل غياب المخبر عن القرية أزمة جعلت من أبناء القرية جميعاً يطالبون بعودته كي تمضي حياتهم

سعيدة هانئة! لكن في الحلقة الأخيرة يصل أبناء أم الطنافس إلى لحظة الانفجار فيعبرون عن آرائهم بصراحة ومن دون

تملق؛ يعترض «سلنغو» على مبدأ التهريب فهو برأيه خطر على الاقتصاد الوطني وأبو شمله ليس أكبر من الحكومة

والتبليغ عن الفساد من واجبات المواطن وليست عاراً بحقه، بينما يعترف «أبو نادر»، في لحظة مصالحة مع الذات، بأن

القانون لا يخدم الكل وأنه على استعداد أن يترك السلك ووصف «أبو شمله» بأن لا قيمة له، وفي مشهد آخر يقرر

«المختار» أن يرفع رأسه في وجه ظلم قرية التخريمه ويدافع عن حقوق أبناء قريته مهما كان الثمن، حتى «ديبه»

استطاعت أخيراً التعبير عن رأيها من دون أن تنال نصيبها من «حذاء جوده». ‏

استفاد حجو من كل مفردات المكان، على طول حلقات المسلسل لإظهار إسقاطات الواقع وتنفيذ مقولات العمل،

ونجح في ذلك إلى حد بعيد، واستطاعت كاميرته أن تلج عالماً سحرياً عذباً، وأن تدغدغ أحلام الإنسان المدني الذي

نظر بعين الغيرة إلى تلك البقعة العذراء من الأرض، كما أحسن توظيف الرموز، وخصوصاً في الحلقة الأخيرة،

فالمستوصف رمَز إلى عالم التكنولوجيا الحديث المتطور، وأبناء القرية هم آخر رموز النقاء في المجتمع العربي. وفي

حركة راقية ومميزة زاوَجَ بين أغنيتي «خبطة آدم» و «موطني» مع عزة «أبو نادر» و«المختار» عندما عبّرا عن

اعتزازهما بوطنيتهما وإحساسهما بالمسؤولية الحقيقية أمام أبناء قريتهما، كما أدخل (تترات) إخبارية عاجلة أفادت في

فهم الحكاية بأسلوب كوميدي مبتكر. بالنتيجة، نجح حجو وحمادة في تقديم كوميديا إبداعية من نوع مختلف، متقنة

ومدروسة وهادفة، لا تقل أهمية في نبلها وإبداعها عن أي كوميديا عظيمة. ‏