2012/07/04

وديع الصافي: مؤامرة صهيونية على الغناء العربي
وديع الصافي: مؤامرة صهيونية على الغناء العربي


عبد الرحمن سلام - الكفاح العربي


"عمري الفني أربع مراحل، أجملها الثانية وأسوأها الأخيرة".  بهذه الكلمات وصف "مطرب المطربين" وديع الصافي (كما أطلق عليه الموسيقار محمد عبد الوهاب) مسيرته الفنية الطويلة، والمستمرة في مواجهة "المؤامرة الصهيونية" على الأغنية العربية، وفق ما قاله في الحوار الآتي.


■ لنبدأ من المؤتمر الصحفي الذي عقدته أخيراً في نقابة الصحافة اللبنانية وخلاله تلا ابنك الموسيقي انطوان بياناً شرح فيه علاقتك بالرئيس السوري بشار الاسد، كما كان لك، في البيان نفسه، موقفا حازماً في أمور كثيرة... السؤال: لماذا كان هذا المؤتمر؟ وهل اردت توجيه رسالة ما؟ وإلى من؟

- بصراحة تامة، أعلن ان المؤتمر المذكور اتى على أثر مشاركتي في البرنامج التلفزيوني "صولا" الذي تقدمه المطربة السورية المقيمة في مصر السيدة اصالة نصري، خصوصا وان البعض ربط بين مشاركتي في البرنامج المذكور من جهة، وبين موقف مقدمة البرنامج من الاحداث التي تجري في سوريا، كما ربط ايضا بين موقفي الانساني وقناعاتي، وتصريحات السيدة اصالة نصري التي هاجمت الرئيس السوري ونظامه في الكثير من وسائل الاعلام المرئية المقروءة... بصريح العبارة، وأولاً، اردت ان اوضح للقريب وللبعيد ان تصوير هذه الحلقة من البرنامج تم قبل اطلاق السيدة المطربة اصالة مواقفها السياسية من سوريا ورئيسها، وأيضاً اردت ان اوضح، وبصوت مسموع، ان علاقتي بسوريا ورئيسها وشعبها هي علاقة انسانية ـ روحية، ومبدئية وغير قابلة للتغيير.

ويتابع الصافي: لقد اردت، بالوضوح الذي جاء به البيان الذي تلاه ولدي انطوان، ان اؤكد، ولكل الناس، بانني فنان وفيّ... وان "زواريب" السياسة لا اعرفها، ولا علاقة لي بها... وان الوفاء من طبعي انا وأسرتي... لقد اردت ان اعبر عن شكري وامتناني للرئيس بشار الاسد، وللشعب السوري، والاعتراف بجميل ما قدموه لي من عون ورعاية خلال اشد اوقات المحنة الصحية التي مررت بها... كذلك، اردت ان اوضح انني افصل تماما بين مشاركتي في برنامج فني وبين آراء ومواقف صاحبة البرنامج، وها انا اليوم، وللمرة الثانية، اشدد على كل كلمة وردت في البيان الصحفي، كما اكرر اعترافي بالعون الانساني الذي وجدته من الرئيس بشار الاسد.

وبلهجة فيها الكثير من الأسى، تساءل الصافي مستغربا: يا عمي... هل المطلوب أن أكون ناكرا للجميل؟ هل يريدون مني أن أشتم، وأن اهاجم من احسن لي؟ يا عمي انا فنان... يعني انا انسان حساس... والسياسة "مش شغلتي"... والفنان اللي ما عندو احساس ما بيكون انسان. والله يلعن كل من يشرب من بير ويرمي فيه حجر.

ويصمت مطرب لبنان وديع الصافي لبعض الوقت قبل ان يضيف: بيكفّي لهون (قالها بعصبية)...

■ بحسب معلوماتنا، فإن عمرك الفني اليوم اصبح 67 عاماً، على اعتبار انك بدأت مشوار الاحتراف وأنت في الـ23 من العمر، وكان ذلك في العام 1944... ومنذ ايام، احتفل بك المحبون لمناسبة بلوغك سن الـ90. فلو اردنا ان تقسم سنوات الاحتراف هذه الى مراحل، فكيف توزعها؟ وكيف تعنونها؟

- هذا سؤال يعيدني الى ذاكرة الايام: أولاً، اقسّم حياتي الاحترافية الى أربع مراحل وأحددها على النحو التالي، مرحلة اكتشاف الذات... ومرحلة الاغتراب... ومرحلة العودة الى ارض الوطن... وأخيرا، مرحلة الهجرة الى خارج الوطن. اذا شئنا الدقة اكثر، اقول ان اول خمس سنوات شكلت المرحلة الاساس، اي مرحلة اكتشاف الشخصية الغنائية، وبلورتها، وفيها تخليت راضيا عن اسمي الحقيقي (وديع فرنسيس) وارتضيت الاسم الفني (وديع الصافي) وهو الاسم الذي اختاره لي الفنان المرحوم محيي الدين سلام (والد المطربة الكبيرة نجاح سلام) وكان يرأس القسم الموسيقي في الاذاعة اللبنانية يومذاك، كما كان يرأس لجنة الاستماع التي امتحنتني... بالاسم الجديد، بدأت اطلالاتي الاذاعية والمسرحية في كل من لبنان وسوريا كما بدأ اسمي بالانتشار، وصولاً الى المرحلة الثانية، والتي اسميها "المرحلة الاغترابية".

■ في اي عام بدأت، وكم سنة استمرت، وماذا حققت فيها من انجازات؟

- بدأت في بدايات الخمسينيات، واستمرت زهاء السنتين، وفيها نجحت في تثبيت اللون الغنائي اللبناني في ذاكرة المغتربين اللبنانيين، بعدما كان اللون الغنائي المصري هو السائد. واللون الغنائي الذي حملته معي الى عالم الاغتراب، اكدت عليه عند عودتي الى لبنان، خصوصا وان الشارع الغنائي المحلي كان بدأ يشهد حضورا كبيرا لشعراء وملحنين لبنانيين، عملوا على انعاش عملية تأسيس الاغنية اللبنانية.

■ هل من اسماء تذكرها، وتعيد لها فضل التأسيس للأغنية اللبنانية في ذلك الزمان؟

- عندما غادرت لبنان الى دنيا الاغتراب، كان للكلمة واللحن اللبنانيين على الساحة المحلية حضورا لكل من الشعراء والملحنين: عمر الزعني، نقولا المني، يحيى اللبابيدي، سامي الصيداوي، متري المر، سليم الحلو، وديع صبرا، محيي الدين سلام وغيرهم... وهؤلاء يمكن تسميتهم بـ"جيل المؤسسين للأغنية اللبنانية"... وعندما عدت الى لبنان، وجدت أن اللائحة ضمت اسماء اخرى كثيرة ومتميزة شكّل اصحابها ما يمكن تسميته "الجيل الثاني" من الملحنين، ومن ابرز هؤلاء: حليم الرومي، عاصي ومنصور الرحباني، فيلمون وهبي، زكي ناصيف، شفيق ابو شقرا، جورج فرح، خالد ابو النصر، توفيق الباشا، عبد الغني شعبان، الياس الرحباني، مصطفى كريدية، فؤاد زيدان، وغيرهم.

■ مرحلة العودة الى الوطن في بدايات الخمسينيات ماذا حققت لك؟ وكيف تصفها؟ وكم طال امدها؟

- حققت لي الكثير، واستمرت طويلا جدا، كما شهدت تطورا لافتاً بحيث اصبح اسم وديع الصافي "رناناً" في مختلف العواصم العربية، وأصبحت ادعى للغناء في مصر وسوريا والعراق والاردن ومختلف البلاد العربية، ما أسهم في انتشار اللون الغنائي اللبناني الذي تمسكت بغنائه، في المنطقة العربية كلها، وبعض هذه الاغنيات اصبحت مطلوبة في كل حفلاتي، بهدف بث اللون الغنائي اللبناني في الوجدان والقلوب، لبنانياً وعربياً واغترابياً. هذه الاغنيات، جعلت للفن الغنائي اللبناني طعما وشكلا، ونصفه اليوم بـ"الزمن الجميل" الذي شهد انطلاقة المهرجانات على المستوى المحلي والدولي، حيث انطلقت مهرجانات بعلبك الدولية في العام 1957، وقدمت للعالم "الليالي اللبنانية" الى جانب اعمال فنية لفرق اجنبية عريقة، كما حملت اسماء ومجموعة كبيرة من فناني لبنان الى مجد العالمية، مثل فيروز، وضاعفت من شهرة صباح التي كانت معروفة عربيا بفضل السينما المصرية.

■ هذه الاغنيات، أين هي اليوم، وماذا حل بها؟

- هي موجودة في ارشيف الاذاعة اللبنانية... يضحك وهو يقول: يا عمي... هذه الاغنيات لو تم الاعتناء بها والاستمرار بتقديمها عبر الاذاعات لما كنا اليوم نشكو من "غربة الاغنية اللبنانية" ومن التراجع الكبير والمأسوي الذي اصاب فن الغناء في لبنان.

■ لكن البعض يعتبر ما يقدم من غناء وموسيقى منذ سنوات، يمثل التحديث والتجديد ويماشي التطوير للأغنية العربية؟

- هذا غير صحيح... ما يحدث هو مؤامرة صهيونية على الغناء العربي عموما، واللبناني خصوصا، وما يقدم منذ اكثر من (15) سنة في التلفزيونات من اغنيات وفيديو كليبات وتسجيلات هي اعمال تافهة في غالبيتها وتعمل على تغييب الوجدان وانعدام الذوق، كما انها لا تحمل اي مضامين، لا انسانية ولا فكرية، ولا علاقة لها بالاحاسيس او المشاعر.

ويسأل وديع الصافي بغصة: هل ما يبث اليوم على مختلف الاذاعات او يعرض على كل التلفزيونات يوازي ربع ربع ما كان يقدمه فنانو الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي؟ وهل يمكن ان نوازي بين انتاج اليوم الفني وانتاج الرحابنة على سبيل المثال، أو فيلمون وهبي او زكي ناصيف أو... أو... أو...؟

ويتذكر "ابو فادي" الدور المهم والمفتقد منذ سنوات، والذي كانت تؤديه المهرجانات عبر الليالي اللبنانية في "بعلبك"، من دون ان ينسى الحديث عن دور فرقة "الانوار" التي اسسها عميد "دار الصياد" الصحفي اللبناني الراحل سعيد فريحة، لافتا الى ان هذه الفرقة لعبت دورا كبيرا في نقل الغناء اللبناني من المحلية الى كل المنطقة العربية، بفضل العروض الفولكلورية التي قدمتها خارج لبنان.

■ هل "الزمن الفني الجميل" يعني فقط الغناء والموسيقى والمهرجانات الفنية؟

- بالعكس ، فهو يشمل ايضا مطربي ومطربات المرحلة المذكورة، والعازفين، حيث شهد لبنان حضور اكثر من فرقة موسيقية فيما كنا في السابق نستعين كمطربين بـ"تخت موسيقي" مؤلف من عدد قليل من العازفين، وكذلك شهدت المرحلة ذاتهما رواجا مميزا في مجال انتاج وتوزيع الاسطوانة، اضافة الى انتشار سوق المجلات الفنية التي كانت تواكب الحركة الفنية اللبنانية والعربية، من دون ان ننسى حركة "الانتاج" السينمائي الكبيرة، حتى ان نجوم السينما المصرية بدأوا بالتوافد الى لبنان للمشاركة في الانتاج السينمائي اللبناني او لتصوير اعمالهم في الستوديوات التي انشأت في لبنان، مثل ستوديو "بعلبك" الذي كان مقرراً له ان يكون نقطة انطلاق لتحويل لبنان كله الى ستوديو سينمائي.

ويختم مطرب لبنان وديع الصافي هذه المرحلة المضيئة من تاريخ لبنان الحديث الفني بـ"تنهيدة اسف"، ويقول:

- سبق لي أن غنيت مثلاً شعبياً تحول الى اغنية تقول في مطلعها: "كل طلعة قبالها نزلة"... وهذا المثل صحيح كما يبدو، حيث ان صعود الحركة الفنية في سنوات الستينيات والسبعينيات، وعلى مختلف المستويات، بدأ يتلاشى مع اولى ايام الحرب اللبنانية السيئة الذكر والتي اكرر وأصر على وصفها بـ"المؤامرة الصهيونية على لبنان"، حيث اقفلت الستوديوات السينمائية والتسجيلية ابوابها، وتوقف بالتالي الانتاج السينمائي والغنائي، وافتقدت بعلبك لياليها اللبنانية ومهرجانها السنوي وتوقفت الحفلات، وتوزع اهل الفن، شعراء وملحنين ومطربين ومطربات في ارجاء المعمورة، سعيا وراء رزق يؤمن لهم حياة اسرهم، وخوفا من قذائف عمياء او سيارات مفخخة، بعد اندلاع الاقتتال الطائفي والمذهبي بين ابناء البلد الواحد.

■ هل مع بداية هذه المرحلة البغيضة بدأت المرحلة الرابعة التي لم تأت على تفاصيلها بعد؟

- نعم... فهكذا بدأت مرحلة "التهجير" القسري الى خارج لبنان، والتي فرضت قسرا على الكثير من اللبنانيين، وعلى غالبية الفنانين اللبنانيين ربما، خصوصا وأن جميع هؤلاء لم تكن لهم اي علاقة بهذه الحرب القذرة، فما كان امامهم سوى "الهجرة" بحثاً على لقمة عيش لأبنائهم اصبحت إما شبه مفقودة في وطنهم، وإما "غالية الثمن" في ظل السلاح الذي انتشر بين ايدي "جهلة الناس وأكثرهم جنوناً".

أقاطعه بالقول: ألم يكن بمقدور مطرب لبنان وديع الصافي، وهو الفنان المحبوب من كل اللبنانيين، والذي لا عداوة له او معه مع اي من المتقاتلين، ان يبقى في وطنه بدلاً من تحمل سلبيات الهجرة وما اكثرها على فنان بمستواه؟

- الابداع بدو استقرار نفسي وأمني... ويستحيل على اي فنان ان يبدع وهو مهدد مع عائلته بقصف عشوائي او بسيارة مفخخة او برصاص قناص! ورغم ذلك، بقيت في لبنان لأشهر، والى أن اصبحت الحياة فيه مستحيلة، فالحرب كانت تشتد يوما بعد يوم، فيما كنا كلبنانيين نأمل بحدوث معجزة توقف هذا الجنون، وحيث مرت عليّ فترتان اعتقدت خلالهما ان الرحمن عاد الى عقول وقلوب الافرقاء المتقاتلين... المرة الاولى عندما انتخب الرئيس المرحوم الياس سركيس، والمرة الثانية عندما انتخب الرئيس المرحوم بشير الجميل، لكن الحلم بالامان والاستقرار في المرتين استمر وهماً، ولذلك اتخذت قرار "الهجرة".

■ سنوات الهجرة هذه كم استمرت، وأين امضيتها؟ وكيف؟

- استمرت 13 سنة متقطعة، حيث كنت اتردد على لبنان كلما لاح في الأفق بصيص امل بعودة الطمأنينة والهدوء والاستقرار، لكن كل سنوات المرحلة هذه اكدت لي ان المؤامرة على لبنان وشعبه هي مؤامرة صهيونية ومستمرة، وان فترات الهدوء التي كان اللبنانيون ينعمون بها بين فترة وأخرى، كانت مجرد مرحلة انتقالية من ادارة معركة الى اخرى.

■ وأين امضيت هذه السنوات؟

- امضيتها متنقلا ما بين بعض العواصم العربية والاوروبية... كنت اسكن، ومعي ولدي جورج وانطوان، إما في الفنادق أو في الشقق المفروشة.

■ وبقية العائلة؟

- كانوا يعيشون المأساة على ارض الواقع، بينما كنا نحن نسعى الى تأمين الحياة الكريمة لهم، وعندما كانت تسنح لنا الظروف، كنا نحضر الى لبنان لبضعة ايام، او اسابيع في احسن الاحوال.

■ انتهت الحرب، وعدت الى لبنان... فكيف وجدته بعد سنوات التهجير؟

- على المستوى الانساني ـ الوطني، تأكدت من صحة قناعاتي بأن اللبنانيين اخوة وأحباء ومتمسكون بوطنهم مهما تكاثرت عليهم المحن واشتدت العواصف، وان المؤامرة الصهيونية ـ الاميركية، ورغم شراستها، لم تفلح في انتزاع لبنان من بيئته وموقعه العربي، كما لم تنجح في تحقيق هدفها التقسيمي، وان الله سبحانه كان الى جانبنا فيسّر لنا رجالا ساعدونا في عملية الانقاذ وتحملوا معنا المسؤوليات الجسيمة، وفي مقدمة هؤلاء ملك المملكة العربية السعودية الراحل فهد بن عبد العزيز والرئيس السوري الراحل حافظ الاسد، وان دورهما لم يتوقف برحيلهما، وإنما استمر بقوة دفع ربما اكبر، من خلال تسلم دفة القيادة من قبل الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس بشار الاسد.

■ هذا على المستوى الوطني والانساني ـ الاجتماعي، لكن ماذا عن المستوى الفني؟

يضحك الصافي، ويقول مختتماً هذا اللقاء:

-بصراحة... لا قلب يحزن ولا عين تشوف... فلبنان الفني الذي عرفناه هو غير لبنان الفني الذي وجدناه عند العودة من "هجرتنا" في العام 1990.

■ لكنك رغم ذلك، سلمت "راية" فن وديع الصافي لأحد ابناء هذا الجيل الغنائي؟

- صحيح... وكان بالامكان ايضا ان اقسم الراية المذكورة بين اكثر من مطرب، وأنا، ان كنت قد "توجت" المطرب عاصي الحلاني، فهذا لا يعني انني لا اعترف ببنوة معين شريف او ملحم زين، وكل ما فعلته انني اخترت عاصي بسبب "أقدميته"... ليس إلا.