2012/07/04
بوسطة - وكالات
فيلم كوري وآخر إيطالي عرضا في اليوم الثالث لفعاليات مهرجان كان السينمائي في دورته الـ 64، يتحدّثان عن الوحدة المطلقة التي تبدو وكأنها وحدة الزاهدين المنعزلين عن العالم، الأول هو فيلم «لدينا حبر» للمخرج الإيطالي نانّي موريتّي وعلى الصفحة نفسها قراءة لهذا العمل، والثاني فيلم «آريرانغ» للكوري الجنوبي المبدع كيم كي دوك والذي نتعرض له بالرصد والتحليل.
ثمة مثل يقول «مغنية الحي لا تُطرب» وهي في الغالب ممقوتة بصرف النظر عن جمال صوتها، وهذه هي حال المخرج الكوري الجنوبي كيم كي دوك في بلاده، فبرغم ما حصد بأفلامه الخمسة عشر السابقة، كل ما يحلم به مخرج سينمائي من جوائز، فإن كي دوك لا يحظى بالقبول في كوريا من قبل المجتمع السينمائي، وقد أتيحت لي في الصيف الماضي فرصة الحديث عنه مع بعض السينمائيين في سيؤول، وتوقّعت أن الحديث سيطول وأنني سأتعرّف، من خلال مواطنيه وزملائه، على جوانب أخرى كثيرة من إنجازه وعمله، وفوجئت عندما وجدت الحديث يُقطع بشكل سريع ودون أية استطالة مأمولة مني. وحين تساءلت عن السبب، قيل لي، بتبرير سطحي، إن «كيم كي دوك يتناول موضوعات لا تحظى بالود الكبير هنا!!».
أعترف أنني لم أدرك كنه تلك الجملة ولم أفهمها حينئذٍ، لكني وبعد مشاهدة فيلمه الصعب «آريرانغ» والطارد للمشاهد أيضاً، باتت بعض الأمور أكثر وضوحاً لدي، وقد يكون السبب، (أو ربّما) أنّ كيم كي دوك، فنان حر يفكّر برأسه ولا يخضع لقوانين يضعها آخرون، في مجتمع تحكمه التقاليد بشكل كبير.
وتأتي طبيعة صناعة هذا الفيلم، المليء بهفوات الإنجاز، شهادة ضد المجتمع السينمائي الكوري الجنوبي وتأكيداً من الفنان لحالته الخاصة ولخصوصيته أيضاً، وبرغم أنه لا يدّخر لنفسه أيضاً المصير الذي حدده لنماذج من المجتمع السينمائي الكوري الجنوبي، إلاّ أنه يُرسل خطاباً يؤكد فيه بأن «ذلك المصير، إن تحدّد في يوم ما، فإنه تنفيذه سيكون بيدي أنا وليس بأيديكم أنتم».
العزلة المطلقة
يعرض الفيلم يوميات المخرج كيم كي دوك الذي انعزل وحيداً ليعيش في بيت جبلي على قمة جبل آريرانغ المغطى بالثلج طيلة زمن الفيلم (وليس بالضرورة هذا ما هو حاصل في الواقع)، فلا وجود لأي إنسان في المحيط، حتى عندما يستخدم البطل ـ المخرج المنظار، وحتى المدينة التي يمر فيها بسيارته في نهايات الفيلم تبدو غير آهلة بالبشر، وزاد كيم كي دوك في حالة العزلة التي يعرضها لنا بتقديمه مشهد عبارة عن خيمة بلاستيكية صغيرة من النوع الذي يستخدمه متسلقو القمم العالية من الجبال، إنه ينام ويعمل داخل هذه الخيمة التي نصبها في صالة البيت الجبلي، وأثارت هذه الحالة مرحا وضحكا في القاعة، إلاّ أن المخرج أراد التأكيد على حالة العزلة المطلقة التي يعيش فيها، وهي عزلة لا يرافقه فيها إلا قطة صفراء الفرو، تُطلق مواءها وكأنها تحاوره، ولم يأت استخدام القطة عفو الخاطر، بل هو تأكيد آخر من قبل كيم كي دوك على استقلاليته المطلقة وعدم خضوعه، كالقطط، لما يُملى عليها من أوامر فوقية، فبرغم أنها دُجّنت عبر الزمن، لكنها لا تزال تحتفظ بقدر عال من الاستقلالية على عكس الكلاب.
الوصية الأخيرة
«آريرانغ» شهادة تقرب من الوصيّة ما قبل إطلاق الرصاصة الأخيرة على الصدغ الأيمن، إنها تأكيد على القطيعة التامّة ما بين المخرج وزملائه، وتأكيد إضافي على أهميته عالمياً، لاسيما وأن القاعة استقبلت الفيلم بتصفيق طويل وعالِ، جعل المخرج يشعر بالحرج الكبير رغم كونه فاز، كما أسلفت، بكل ما يُمكن أن يحلم به مخرج، من الأسد الذهبي في فينيسيا وسعفة كان ودب برلين وباردو لوكارنو والعشرات من الجوائز المالية، وبرغم أن أفلامه «شوهدت في أرجاء الأرض» كما يقول هو ضمن شهادته الطويلة في الفيلم لي وهو لسان أحد حالات كيم كي دوك التي يؤديها في الفيلم كذلك، وربما كانت مصادفة أخرى، أو هي مخطط لها، فإن كيم كي دوك صعد على مسرح صالة ديبوزي بمهرجان «كان» التي شهدت العرض العالمي الأول للفيلم، بالزي الرمادي ذاته الذي يرتديه في نهاية الفيلم.
ترى هل كان ذلك تأكيداً على كون الفيلم سيرة ذاتية حقيقية، أم إنه إظهار لعدم وجود فواصل أو جدران بينه وبين الشخصيات التي أدّاها في الفيلم؟! وأن الفيلم لم يكن إلاّ مرحلة سبقت وقوفه (ووقوف شخصيات الفيلم) على خشبة مسرح ديبوزي؟!
إنجاز السينما
يقول كيم كي دوك: «لقد أردت أن أنجز فيلماً عن السينما» .. ويضيف: «وعن طريقة إنجاز فيلم، أردت أن أقول رأيي في السينما»، ولربما قال كيم كي دوك بهذا الفيلم، رأياً في السينما، إلاّ أن ما هو أكبر من ذلك هو أنه أطلق العنان لشكل آخر من أشكال إنجاز السينما، فبعد أن عُرفت لعقود طويلة أنها أم الفنون، وأنها لا يُمكن أن تُنجز إلاّ بتضافر جهود عاملين كُثر، هاهو كيم كي دوك يقول إن بإمكان شخص واحد إنجاز فيلم بمفرده، وليس بالضرورة أن يتحدّث ذلك الفيلم عن حالة الوحدة المطلقة، التي لا يزال يعانيها المخرج الكوري رغم نجاحاته السينمائية.