2012/07/04
تشرين - نجيب نصير
يتكاثر الحديث هذه الأيام عن مشكلة عضوية تواجهها (الإنتاجات!!) التلفزيونية السورية التي لخصت نفسها إلى المسلسل التلفزيوني (أبو الثلاثين حلقة).
ولا شيء سواه (ربما وفي بعض الأحيان شوية كميرا خفية أو برامج دينية مرتجلة)، المشكلة هي التسويق وتأثيره على استمرارية الإنتاج، وهي مشكلة أساسية للغاية لا يمكن حلها إلا بالنظر إلى الدراما كمنتج غير تقليدي يحتاج تفكيراً وتخطيطاً غير تقليدين حتى يتم استيعاب فكرة العرض والطلب المبدئية التي تقوم عليها أية سوق مفتوحة، وأية عملية تسويق عادلة، وهذا ما يصر عليه المنتجون السوريون الذين يكررون، أن العملية في النهاية هي عرض وطلب.
ولكن هذا العرض والطلب على ماذا، هل على المنتجات التقليدية كالسيوف الدمشقية أم العباءات أم البرغل والمكدوس التي تحتاج تاجراً اعتيادياً يشتري بخمس ويبيع بعشر؟، أم هو على بضاعة غير تقليدية يدخل فيها الإبداع والفكر كمواد أولية، ينتج بضاعة ذات تأثير إستراتيجي، ينبع من تلبية رغبة الإقبال على الاستهلاك، أو بتعبير آخر إنتاج سلعة إستراتيجية لا يمكن الاستغناء عن ضرورتها كجزء أساس من عملية إعلامية واسعة ؟ .
ما يمكن قوله عن السلعة التلفزيونية، من خلال مقولة العرض والطلب الآنفة، أنها بحاجة عقلية موازية ومساوية لنوعية السلعة، إضافة إلى تمتعها بحركية قابلة لاستيعاب المستجدات التكنولوجية والبرامجية والثقافية، فالسوق المقصودة (وهي ليست كبيرة على أية حال)، هي سوق متغيرة على صعيد الثقافة الاجتماعية، وربما كانت الدراما السورية وغيرها سبباً من أسباب هذا التغير الثقافي على صعيدي التعامل مع التكنولوجيا، والتعامل مع الأفكار الاجتماعية المحدثة، وتعبيرات هذا التغير نجدها في نوعية الاستهلاك لسلعة حداثية كالمنتجات التلفزيونية والدراما جزء منها، ومن هنا تبدو الحاجة إلى منتجين ومسوقين على مستوى السلعة، وليس إلى موظفي أموال في شروط كلاسيكية تكون الفهلوة أو الشطارة الكلاسيكيتان جزءاً مؤسساً من مهارة لم يعد لها مكان في سوق مفتوح على التنوع من جهة وعلى الإبداع من جهة أخرى كشرط أساس للاستمرار في المنافسة.
والمنافسة هنا ليست على سلعة أصبحت اعتيادية (سكر شاي أرز.. مثالاً) كالمسلسل التلفزيوني ذي الثلاثين حلقة، بل أصبحت على منظومة متكاملة من المنتجات التلفزيونية، من المنوعات إلى البرامج إلى الأفلام التسجيلية والوثائقية والروائية وإلى ما هنالك من منتجات تشكل قوام العمل التلفزيوني التسلوي، والذي يعتمد الإعلان (التجاري أو السياسي أو الاجتماعي الإيديولوجي) ممولاً، بحيث تتجاوز آليات هذه السوق آليات التسويق الاعتيادية، ليصبح التنافس هو الدافع ليس لاختراع طرائق جديدة في التسويق فقط، بل من أجل المغامرة في مشروعات إبداعية تتجاوز المنتجات السابقة، بحيث تصبح السلعة المعروضة سلعة ضرورية، لاسيما إذا اقتنعنا أن السلع الإبداعية هي سلع مؤقتة بمعنى وجوب تطويرها شكلاً ومضموناً وتقنياً، فالمشاهد الذي «استهلك» أعمالاً درامية سورية أصبح بحاجة دراما مختلفة، لأنها هي نفسها غيرته إلى حالة مختلفة تتطلب سلعة مختلفة، وهنا لا يمكننا إلا الأخذ على منتجي الدراما إلا سكونيتهم الإبداعية التي تعني تماماً سكونيتهم تجاه المنافسة، فقد استحى (وعلى سبيل المثال) كل المهتمين بمصير الدراما على عقد ندوة بحثية تبحث في أسباب اجتياح الدراما التركية لشاشات السوق، والتوصل إلى نتائج تذكي التنافس وإثبات الجدارة!!! ما يعني تماماً أننا خارج منظومة التفكير الموازية للصناعة التلفزيونية، لا بل خارج مفهوم التنافس في السوق المفتوحة على شتى الاحتمالات.
تم التعامل نقدياً مع المسلسل التلفزيوني السوري التي لا تعرف هذه( الصناعة) التلفزيونية صنع غيره، تم التعامل معه بتدليل واضح إذا لم نقل فاضح وكأنه طفل لما يبلغ سن الرشد بعد وبحاجة دعم ومساندة بشكل دائم متناسين أن النمو والرشد يجب أن يظهرا على هذا الطفل المعجزة في كل مناحي وجوده، ولم يعد بالإمكان الاستمرار بتدليله (هو وأخواته من نقد وتمثيل وإخراج وإنتاج وحتى نقابة)، فالحياة في الخارج قاسية والتنافس على أشده وليس من اللائق أو العقلاني أن نشترط على المنافسين أن ينتجوا الصنف نفسه حتى نقدر على منافستهم، فالإنتاجات التلفزيونية متكاملة من جهة، ولكن النوعية التي يظهر النقد تهافتها يجب أن تؤخذ بالحسبان من جهة ثانية، لأنها تسبق السوق في تقييم ضرورة شراء هذه المسلسلات أو الاستغناء عنها!!!. فحتى الآن لم يأخذ صناع العمل الدرامي النقد بجدية على أنه ميزان للسوق أيضاً، بل عدّه نوعاً من القديح والمديح الذي لا يؤشر إلى شيء خارج ذواتهم، هنا يمكننا التفريق بين رأسمال (نقود أو موهبة أو مهارة) قلاب (شقيع) وبين رأسمال فاهم للعبة بتنافسيتها الإبداعية، بحيث يستطيع استقراء السوق وتوجهاته بناء على نهائية احترافه للإنتاج الفني.
اليوم وبعد هذه السنوات من عمر الدراما التلفزيونية السورية، من المعيب أن نقول أو أن نلتجئ لذريعة العرض والطلب على واقعيتها، فالسوق الذي التهم الدراما التلفزيونية مع بداياتها كضرورة ،لم نحافظ عليها (الضرورة) بالارتقاء والاستقراء والمغامرة والتنويع في المنتجات، كان علينا دراسة هذا ونقده يوماً بيوم (وهذا مكلف طبعاً) فالعشوائية الإنتاجية تفتقر إلى مفهوم المغامرة الإبداعي، إن كان على صعيد التسويق الذي يحتاج (عقلاً يحسبها) وليس فهلوة (بتجيبهامن تم الضبع)، وعلى هذا الأساس تتحول سوق الدراما إلى سوق جمعة، ينتهي في أي وقت يراه المشترون إذ ليس من سلعة ضرورية لهم، ولا أحد من الصناع يعرف ما هو الضروري، ونكون بهذا حولنا بضاعة ثمينة من حيز الطلب إلى حيز العرض بمقامرة فهلوية حصد منها البعض (قرشين مدسمين) وليذهب الفن وفعاليته الاقتصادية إلى الجحيم ...
لايمكن الاطمئنان على مصير الدراما التلفزيونية ضمن هذا الأداء أو ضمن هكذا تصريحات لا يعرف أصحابها (الخمسة من الطمسة)، مع أن هذه المعرفة بالذات هي جزء من الإنتاج، فعلى أي محترف معرفة سوقه وتحولاته كي يستطيع دخوله مع علمه وقبوله المسبق بالمنافسة وفوائدها، ولكن هذه الأداءات والتصريحات تشرع ذرائع الفشل قبل أن تقوم بما عليها من أداء معرفي يؤثر في الأسواق لا بل ويفتح أسواقاً جديدة بناء على جودة السلعة وإدهاشها واستشرافها لمزاج المتلقي الذي يبحث عن جديد ليس بتأثير الدراما فقط بل بتأثير طوفان الإعلام البصري الترفيهي الذي يزاحم للاستحواذ على أكبر حصة من السوق.
في هذه الأيام لو تنقلنا بين المحطات العربية وشاهدنا معروضاتها من شتى أنواع الفن والترفيه، هل نستطيع الجزم بأن الدراما السورية بشكلها الحالي يشكل أية ضرورة؟ فإذا لم تكن موجودة أو غابت عن إحدى الشاشات، هل هناك حاجة للبحث عنها؟ أم هناك الكثير من البدائل؟ هذا هو السؤال المحوري الذي يجب أن نسأله لأنفسنا، إذا كنا جادين في اتخاذ صناعة المسلسل التلفزيوني ذي الثلاثين حلقة حرفة مستمرة!!!
في كل الأحوال، لقد انصاع صناع المسلسل عندنا لكل أنواع الرقابات، ولكل أنواع المزاجات الشخصية، وتأقلموا معها (ولسنا هنا بصدد ما تم من عبث ثقافي ومعرفي ومعلوماتي)، ولكن السؤال الوجودي هنا، هل يستطيعون التأقلم مع سوق تلفزيونية حداثية متغيرة تحتاج أكثر من صنع مسلسل؟؟ وعليه يجب أن نكون حذرين من التنظير الاستعلائي الفهلوي، وحالات البرستيج المتورمة، ومن تصديق أن ما أنجزناه من دراما تلفزيونية هو معجزة، فالطفرات ممكنة الحصول ولكن الشاطر المعاصر الذي يفهم بالتلفزة والدراما، هو من يستطيع أن يجعلها قطاعاً اقتصادياً وطنياً .. بشكل دائم.