2012/07/04
مارلين سلوم – دار الخليج
نشعر أحياناً بأننا لا نختلف عن “فئران التجارب” التي يستخدمها العلماء والأطباء في أبحاثهم المخبرية واكتشافاتهم الطبية . فأمام الشاشة نحن فئران يستغلها أصحاب القنوات والمذيعون وبعض الضيوف لغسل أدمغتها وتشكيلها مثلما يشاؤون، وتوجيهها باتجاهات معينة تخدم مصالحهم وأفكارهم وسياساتهم .
وغسل أدمغة المشاهدين أصبح أسهل من الماضي في ظل كثرة البرامج ووسائل الاتصال والتواصل التلفزيونية والإلكترونية، بينما بالأمس كان الإعلان هو وسيلة “الإغراء والإقناع” الأولى، لذا نشعر أحياناً بأننا تائهون وضجرون من كثرة ضوضاء الشاشة ومن فيها، ونهرب إلى الكلام الموزون الذي نبحث عنه كما بحث ديوجين عن الحقيقة بوساطة المصباح .
لاحظوا مثلاً كيف يكثر السؤال عن جديد البرامج والمذيعين، وعن المضمون المختلف الذي سيطلون به على المشاهدين عله يحمل معه ما لم يشاهدوه سابقاً، فيفيدهم ويثري معلوماتهم . لكن البعض يغفل أو يغض الطرف عن السؤال الأهم الذي يطرحه المشاهد كل يوم وقبل متابعته أي برنامج “توك شو” عربي: “من ضيف الحلقة؟”، لأنهم يرفضون سماعه والاستجابة لرغباته طالما أن هدفهم الأول هو خدمة “رسالتهم” الخاصة والسعي أيضاً خلف الإثارة الإعلامية والفرقعة على الهواء .
لماذا يسأل المشاهد عن هوية الضيف ويهتم بمعرفة “وزنه وحجمه” في المجتمع؟ لأنه ببساطة يريد أن يعرف قيمة من يخاطبه من خلال الشاشة، وما المعلومة الجديدة والمفيدة التي سيقدمها له ومدى صحتها . أليس المشاهد هو الطرف الثالث في أي حوار يدور بين المذيع وضيفه، وهو المعني الأول بما يقولونه؟ لذا ندعوكم إلى مراجعة أبرز البرامج الحوارية والسياسية وحتى النشرات الإخبارية التي تعرضها القنوات العربية، لتعرفوا من خلالها ما تريد أن تقوله القناة لكم . من قناة “العربية” إلى “الجزيرة” وهما الأشهر في زمن الثورات العربية، حيث تلعب كل منهما لعبة شد الحبال لجذب المشاهدين تجاه الخط السياسي الذي ترغبه كل قناة أو كل جهة تقف خلفها . ومن بعدهما تنقلوا في جولة سريعة على غالبية القنوات المصرية وبرامج “التوك شو” فيها، ولا تمروا على اللبنانية لأنها “تفصلت” على مقاسات التيارات السياسية واتخذت درب “الإعلام الموجه” لخدمة أصحابه منذ سنوات .
عن “العربية” و”الجزيرة” طال الحديث وتكرر حتى مللنا منه، من دون أن تتغير طبيعة الحوارات والأسئلة ونوعية الضيوف الذين يأتي بعضهم ليصب الزيت على النيران المشتعلة بين كل الأطراف، ولا يحمل أي حلول عملية ولا تفوح من كلماته إلا روائح الفتن والحروب . أما في القنوات المصرية، فيأتيك من يتحدث باسم الثورة باعتباره أمها وأبيها وحامي حماها، وتحسب أنك “الجاهل” والأمي بأصل الثورة ومن يقف خلفها، لأنك لا تدري من يكون هذا “المتحدث” في مختلف برامج “التوك شو” . لكنك تكتشف أن القنوات بدأت تستضيف أياً كان لتجعل منه “خبيراً” ووجهاً إعلامياً معروفاً، وكأنهم يلتقطون أي شاب مستعد للكلام عما يحصل في الشوارع والميادين من واقع “إقامته المستديمة” هناك، بينما من يُفترض به أن يتكلم في مثل هذا الوقت صامت ومهمش في بيته .
في إحدى أمسيات الأسبوع الأول من هذا العام، استضافت المذيعة لميس الحديدي في برنامج “مصر تنتخب” على قناة “سي بي سي”، الدكتور إبراهيم بدران الذي انتُخب رئيساً للمجمع العلمي أخيراً، وهو وزير سابق للصحة، وما أجملها حلقة أخذنا فيها الطبيب المفكر إلى التاريخ والحضارة، وعرج على قيمة الأرض والإنسان فأحسسنا بقيمة الضيف واسترجع معه المشاهد قيمته .
نعم من حقنا أن تقدموا لنا من يقدّر إنسانيتنا ويخاطب عقولنا بحكمة وفهم ووعي . ما قاله الدكتور بدران بأسلوبه البسيط المحبب، أفضل مئة مرة مما يقوله المتصارعون على “مصر اليوم” وكأنها كعكة كل يريد أن ينهش منها قطعة . ببسمته وتفاؤله أدخل إلى قلوبنا الطمأنينة وانتقلت عدوى التفاؤل إلينا، بينما كنا نعيش في قلق مع ضيوف البرامج مما يبثونه فينا من مخاوف وتوتر بأسلوب كلامهم المتشائم وغضبهم الذي لا يهدأ .
معه شعرنا بأن “مصر بألف خير” طالما أن فيها من العقلاء والحكماء ما يكفي لإنهاضها من كبوتها إذا وجدوا من ينصت لهم ويسلمهم الدفة لبعض الوقت . هذا الأمل الذي تحدث عنه بتواضع الكبار ولغة أهل أمس المحترمة، يفتقده المشاهد العربي بسبب الأحوال السياسية، وصراعات الضيوف في البرامج، وظهور أي كان فيها ليقول أي شيء .
مثله أيضاً زادنا الدكتور وسيم السيسي الطبيب والباحث في علم المصريات، معرفة بتاريخ مصر، وقوّى في نفوس مشاهديه العزيمة على مواجهة الأحقاد بالمحبة والسلام، والتعلم من الماضي وقراءته جيداً للاستفادة من تجاربه وتفادي أخطائه، وذلك خلال استضافة خيري رمضان له في يوم آخر على القناة ذاتها .
أمثال هؤلاء المفكرين والرموز القادرين على التحدث من واقع تجارب وخبرة كثر، ومنهم د . مجدي يعقوب وعبد العزيز حجازي ود . ثروت عكاشة ومحمد عبدالقادر حاتم والدكتورة رشيقة الريدي أستاذة علم المناعة والمصنفة أفضل عالمة في القارة الإفريقية وجمال هلال المترجم الخاص لأربعة رؤساء أمريكيين لمدة 19 عاماً وغيرهم من الجالسين في بيوتهم بينما الأوضاع تحتم عليهم الظهور للإسهام في إعادة البناء . لماذا تتجاهلهم الفضائيات ولا تتكرر غير أسماء الخبراء الاستراتيجيين والعسكريين والصحافيين؟ هل نسيتم أن وزن الضيوف وحجمهم يُقاس بوزن كلامهم وما يقدمونه من معلومات ثرية ومهمة؟
* * *
عملية غسل الأدمغة أصبحت صناعة رائجة في زمن الفضائيات والإنترنت، وتؤتي ثمارها بشكل سريع، وهو ما يدركه جيداً بعض أصحاب الفضائيات ورجال الأعمال الذين اتخذوا من الإعلام وسيلة لزيادة حجم إمبراطوريتهم و”تشكيل” عقول الناس وتسطيحها بما يتوافق مع مصالحهم الخاصة . وللأسف بدأنا نشهد تراجع قنوات كانت سباقة وجيدة لتتوسع قنوات “التتفيه” بالطول والعرض .
في لبنان يحكى عن عزم تلفزيون “المستقبل” إغلاق قنواته أو على الأقل القناة الإخبارية، والاستغناء عن 300 موظف . ويبدو أن الخبر أحدث هزة داخل المؤسسة فقرر أصحاب الشأن تأجيل تنفيذ “الإعدام” إلى منتصف العام الحالي لامتصاص غضب المرفودين .
في المقابل شهدت المؤسسة اللبنانية للإرسال “إل بي سي” هزة أكبر مع انتشار خبر استغناء الأمير الوليد بن طلال عن الشيخ بيار الضاهر وعزمه تحويل القناة إلى ترفيهية على أن يُطلق الوليد قناة إخبارية جديدة “العرب” . وهذا الخبر يعتبر “حدثاً” إعلامياً لما فيه من دلالات وتبعات . ترى لماذا تقفل قناة عامة ناجحة ويتم تحويلها إلى ترفيهية، علماً أن مالكها يملك عدداً وفيراً من محطات الترفيه بكل أشكاله، ولا هو ولا السوق يفتقران إلى هذه النوعية من الإعلام “المسطح”؟ ولماذا تغلق هذه لتفتح أخرى إخبارية من قطر؟ ألا يعتبر مخيفاً أن يمتلك فرد “إمبراطورية إعلامية” ويوجهها وفق حساباته الخاصة؟
نحتاج إلى “نهضة” إعلامية واعية قبل أن ينتشر وباء غسل الأدمغة وتكبر الإمبراطوريات ذات “النوايا غير الإعلامية المستخبية”.