2012/07/04

المسرح ما بعد الحداثة كينونات متنوعة في الفضاء والزمن
المسرح ما بعد الحداثة كينونات متنوعة في الفضاء والزمن


تشرين – ثقافة

في الوقت الذي أصبحت فيه الحدود بين الأنواع الأدبية هشة ومربكة بشدة بدأ العديد من الفنانين استكناه تشعبات الاكتشافات العلمية الحديثة والظواهر الجديدة في محاولة لاكتشاف أنظمة مبتكرة تجعل المسرح جزءاً أساسياً وجوهرياً في حياتنا ووعينا،

وبالفعل قاد ذلك إلى مناقشات اجتماعية وفنية جوهرية أيضاً بالنسبة إلى وجودنا نفسه فكيف يمكن تجديد تأليف الأفكار وترجمتها الفنية..

الكواكب البعيدة

في عام 1929 أنجز إدوين هابل ملاحظة أنه أينما نظرت فإن الكواكب البعيدة تبعد سريعاً عنا، بمعنى آخر إن العالم يزداد اتساعاً وقد غيّر هذا الاكتشاف بجانب نظرية النسبية لآينشتاين، وبعدها نظرية الكم من إدراكنا للزمن والفضاء، وتنص نظرية ميكانيكية الكم على أن جميع الأحداث ترجع إلى تفاعل المادة في الفضاء، وفوق ذلك «إن الملاحظ يؤثر في الملاحظ» وأصبح هذا منبتاً أو منشأ مسرح ما بعد الحداثة، أي أن افتراض عالم لا يتغير حلت محله رؤية ديناميكية أكثر تملأ معظم نماذجنا واتجاهاتنا الدراماتورغية في الفن والمسرح وقد دفعت الشكل الفني من التصوير إلى الأداء.. حيث كان المسرح عادة يقوم على الترجمة الشفهية والبصرية لنص المؤلف المكتوب، وترتبط التقاليد الشفهية بالفم المدخل إلى عالمين، عالم الفكر وصوت أفكارنا التي يلفظها.. ونجد أن الكاتب والمخرج والممثل الإيطالي «كارميلو بيني» ينجذب بوضوح لكلمة الشفهي أو اللفظي وتشعبات التعبير الشفهي، حيث يرى أن الكلمة المكتوبة هي ناقوس الموت للكلمة المنطوقة والإزالة المستمرة لكل ما بداخلها، ويضيع صوت اللفظ في الفراغ اللامتناهي الحسي للفجوة الشفهية مثيراً توسعاً داخلياً بمسرح الفضاء والزمن، هذا وحسب الباحث البروفيسور جمعة قاجة فإن حالة المؤلف والمخرج في مسرح ما بعد الحداثة ترتبط بطريقة معقدة بالوعي، حتى أن المسرح يبتعد أكثر من مجرد التصوير إلى الأداء من الأحادية إلى التعددية، وكان بيتر بروك في مقدمة هذا الاتجاه، ففي الأربعة سطور الأولى من عمله المهم «الفضاء الفارغ» يقول: «يمكنني أخذ أي فضاء فارغ وأسميه مسرحاً عارياً، يسير رجل عبر هذا الفضاء الفراغ بينما لا ينظر إليه أحد، وهذا هو كل المطلوب لعمل مسرحي..

المسرح العاري

هذه الرؤية للمسرح هي في جوهر نظرية الكم، ومع ذلك يبقى عمل بيتر بروك من حيث الوضوح والقوة مبنياً على النص، ويتركز على الممثل ومعظمنا يألف في قراءته لشكسبير والمهاباراتا أسطورة الخلق الهندية، وبالنسبة إلى بروك يصبح النص المصدر الأساسي للأفكار التي تترجم بعد ذلك إلى الشكل المنفرد والمميز للمسرح العالمي حيث يتحول دوره بطريقة لا تدرك من المخرج إلى المبدع إلى المؤلف، بعد ذلك يعود ببساطة ليؤدي كصوت بعداً حداثياً في النص الأصلي.. هذا وتعد قراءة بروك للنص مبنية على التبادل الثقافي والاستيعاب العالمي بين الثقافات الذي بلغ ذروته في إنشاء المركز الدولي لأبحاث المسرح في باريس، ومجموعة الممثلين عند بروك متعددي الثقافة والأعراف واللغات، تستكشف علناً وضمنياً العلاقة بين الحضارات المختلفة والحقائق البشرية العالمية، وفي نقطة التحول يكتب «نحن كل منا أجزاء لرجل كامل» وبهذا القول تعبر كل ثقافة عن جزء مختلف للأطلسي الداخلي والحقيقة البشرية الكاملة، والمسرح هو المكان الذي يمكن جمع أجزاء لغز الصور الموضوعية ويصبح المخرج مؤلف إعادة ترتيب الأجزاء سواء كانت صوراً أو أصواتاً أو الكلمات نفسها.. وبذلك يعيد تأويل الثقافة خلال النص والنص خلال الثقافة.. أما روبرت ولسون فيركز بدلاً من ذلك على الفعل الشكلي لإعادة ترتيب كل العناصر البصرية والسمعية والسردية للمسرح على أساس وجهة النظر الواحدة، وفي مقابلة نشرتها دورية «دراما ريفيو» يذكر أن المسرح بالنسبة إليه هو شيء صناعي كلية.. ويجد أنه كلما كان صناعياً بدرجة أكبر اقترب من الحقيقة أكثر..

تفاصيل المسرح

ويبدو أن ولسون يعني بذلك أن حقيقة واحدة يمكن الوصول إليها من خلال حقيقة وواقعية شكل فني، فكل العناصر تتفق ويعطي لها القيمة نفسها تقريباً، ويصبح المفهوم والنص والممثل والصور والسرد إذا كانت جميعها موجودة تفاصيل في المسرحية بينما يتم توزيعهم في الزمن والفضاء مثل عالم نستكشفه والتركيز الأساسي لدى ولسون هو الشكل وكيف يمكن تناوله خلال الصوت والحركة واللغة بشكل يبدو فيه بدرجات مختلفة عند كل مشاهد.. ويفترض تتابع الكلمات والأصوات والصور والحركة أبعاداً جديدة ومعاني جديدة خلال التحول المستمر في الزمن و الفضاء.. وتأخذ هذه الطريقة جذورها في الافتراض اليقيني أن المسرح هو المكان الخاص، فيمكن لأي شيء أن يكتسب معنى، وبحسب ولسون فإن المسرح يمكن أن يكون إيماءة ويمكن أن يكون ضوءاً أو صوتاً أو لوناً، ويمكن أن يكون أي شيء، وهناك كل من هذه المناطق المقسمة إلى طبقات توضع معاً وتركب في حالتي الطباق أو المزج.. وبالنهاية نصل إلى نتيجة هي أن المسرح حقيقة يتوصل إليها خلال الجمع والتفاعل بين كينونات متنوعة في الفضاء والزمن ليصبح حالة تعبيرية للوجود.