2015/03/05

البهلوان الحلبي يودّع موشّحاته
البهلوان الحلبي يودّع موشّحاته

السفير - سامر محمد اسماعيل

برز المونولوجيست الصامت على الشاشة، منذ تأسيس «التلفزيون العربي السوري» في العام 1960. بزغ نجمه ككوميديان من الدرجة الرفيعة. ساعده في ذلك حجمه في الكادر التلفزيوني، ولكنته الحلبية المحببة، وشاربه الكثّ في وجهه الطفولي النابض بالأسى والمرح في آن معاً، وقدرته على تغليب الساخر والمضحك العميق في مجمل أدائه. كلّ ذلك جعل من عمر حجو وجهاً استثنائياً في الكوميديا السورية، مسرحاً وسينما وتلفزيون.
كان صعوده المسرحيّ قوياً، مع رفاق دربه في «مسرح الشّوك» الذي أسّسه مع دريد لحّام ونهاد قلعي ليلعب دوراً محورياً معهما لاحقاً في عروض «أسرة تشرين». خطّ لنفسه بصمة استثنائية لممثل امتلك أدواته في صياغة مفردات شخصية شعبية. لم يستأثر بـ «كاركتر» محدّد، ولم يلجأ للتساخف المجاني، بل سعى «أبو الليث» إلى صناعة أقنعة شخصيته الشعبية بعيداً عن وهم أدوار الصف الأول.
انفرد بجاذبية قلّ نظيرها في إعادة مادة الضحك إلى ميزانها الشعبي وحسّها النقدي اللاذع، من دون التخلّي عن تلك الأدوار التراجيدية التي لعبها باقتدار. وهو بذلك من قامة أولئك الممثلين الذين لا يصعب عليهم انتزاع البطولة، حتى في أدوار الصف الثاني التي أُسندت إليه.
كان حجو متصالحاً مع نفسه، معافى من أمراض النجومية ومجاملة الصحافة الفنية. ممثلٌ يعمل بصمت، متقمصاً أدقّ تفاصيل شخصياته. كان قادراً وبلمح البصر أن يحيل أي دور صغير يسند إليه إلى شخصية، مفضّلاً تلك البراءة والعفوية في الاشتغال على العالم الداخلي للشخصية، بدلاً من محاكاتها برانياً ومن الخارج عبر إكسسوار أو زيٍّ فاقع.
آثر ابن مدينة الموشّحات والقدود على مواظبة تحرير أدائه من مفردات المبالغة والتصنّع، معوّلاً على حرارة لافتة في العيش التام مع الشخصيات التي قام بأدائها. نلاحظ ذلك في لعبه لشخصية الأب غير مرة في مسلسلات الدراما السورية، مثلاً دوره في مسلسل «الانتظار» (2006) تحت إدارة ابنه الليث حجو. ذلك الأداء الحار والعميق من دون توسل البكائية، أو استجداء مرونة في الوجه أو الصوت، يظهر الأب السوري شفافاً وصادقاً لا يُرد. ظهر أيضاً في أداء حرّاق في مسلسل «سنعود بعد قليل» (2013)، الإطلالة الأخيرة لحجو مع رفيق الدرب دريد لحام.
مهارة لا تجارى وزعها الممثل الراحل بين الكوميديا والتراجيديا، ملوّناً في كلّ مرة يقف فيها أمام الكاميرا على وتريّات نفسيّة مختلفة لملامسة جمهوره، فلا تكلف ولا مهاترة شكلية أو صوتية.
وصل حجو إلى قلوب الملايين، معززاً سلطة البهلوان الحلبي على حباله العالية، موشكاً على الطيران في كلّ خطوة وإيماءة ونأمة. لا نكاد لا نصدق أن من أضحكنا في «غربة»، و «كاسك يا وطن»، و «وين الغلط»، «ضيعة تشرين»، هو ذاته عمر حجو الأب والجد في أدوار الدراما التلفزيونية. تلك الأدوار التي لم تكن لتصير شخصيات لا تُنسى لولا أنه قام بأدائها أيما أداء، مترافعاً كممثل عن فطرية فن التمثيل وعفويته، بعيداً عن كل أكاديميات المسرح والسينما... ففاقد الشيء لا يعطيه.
رحل عمر حجو تاركاً لحيته الطيبة وعينيه تنظران نحو حلب. مات الكناري بعيداً عن ماء موشحاته، مات وفي قلبه شيءٌ من حلب.