2015/09/19

فادي قوشقجي
فادي قوشقجي

السفير - روز سليمان

لا يتدخّل فادي قوشقجي في نصّه بعد «الورق». لا يذهب الكاتب السوري إلى موقع التصوير، وإن فعلها فلاحتساء فنجان قهوة مع فريق العمل، والدردشة، ومتابعة بعض المشاهد لا أكثر. «أنا رجل مهنته الورق والكلمات والأفكار، وحين ينتهي عملي على ما أحترف فعله، ينتهي دوري»، يقول في حديث لـ «السفير». هل تلك ثقة مطلقة بالمخرج؟ وهل حصل مرّة وأن تنبأ بشكل نصّه قبل إنجازه على الشاشة؟ يقول: «المسألة غير مرتبطة بالثقة. المسألة هي أن يعمل كلٌ ما عليه. ليس على المخرج أن يرى نصي مُنزلاً، وليس عليّ أن أرى عمله منزَّهاً عن الأخطاء. نتفّق ونختلف، وحين نختلف غالباً ما نعود سريعاً إلى الودّ، طالما أن الأساس المتين موجود، وهو التناغم الفكري والموهبة والإبداع. وعموماً أنا لم أعمل إلا مع مخرجي الصف الأول. لقد كنت محظوظاً إلى حد كبير بمعظمهم».

في نصوص السيناريست السوري حالات عصرية تحمل فكراً وقيماً مجتمعية، لا تميل إلى إلقاء المواعظ، بدءاً من «على طول الأيام» باكورته في العام 2006، مروراً بـ «تعب المشوار» (2011)، و «أرواح عارية» (2012). نسأله إن كانت الشريحة المستهدفة من نصوصه هي الجمهور السوري بالدرجة الأولى، وهل ينبغي الاستسلام لرغبات المشاهدين، أم أن الأهم هو المحافظة على التفرّد، ثمّ مسايرة الجمهور أو حتى الرقابة؟ «دعيني أكرر عبارة لا أملّ من تكرارها: أنا أختار جمهوري. جمهوري الذي أختاره يتكوّن من شرائح متعدّدة: المؤمنون سلفاً بما أطرحه، وأنا هنا صوت لهم. ثم يأتي أصحاب المنطلقات ووجهات النظر الأخرى، من الذين لم يغلقوا عقولهم، والقابلون للحوار، وأنا لهؤلاء محاور. ومن ثمّ وقبل الجميع، الفئات الشابة والشابة جداً من المجتمع، أولئك الذين يمرّون بمرحلة الأسئلة ولم يغلقوا رؤوسهم أمام الاحتمالات المتعدّدة للأجوبة، لهؤلاء أنا «مبشّر» (أكره الكلمة لكنّني لا أجد بديلاً) ومحاور، وقد أصبح صوتاً من أصواتهم لاحقاً».
يضيف: «جمهوري الذي أصفه هنا لا صبغة وطنية له بالضرورة، ولكن نعم، أعوّل على المكوّن السوري بالدرجة الأولى لأنني بالمقام الأول أكتب عنه وعن همومه. أما الرقابة فقد اعتدنا «اللعب» معها، والعمل على رفع السقف تدريجياً. وأعتقد أنَّنا نحقّق خطوات لا بأس بها في هذا المجال. الحلم هو اختفاء الرقابة تماماً. وبين الواقع والحلم زمن وجهد، فلندع الفرصة لهما أن يعملا».

تتضمَّن أعمال قوشقجي صفات وديّة، غير متحفّظة ومبطّنة في نفس الوقت. إذ نجد أنّ شخصيات «في ظروف غامضة» مثلاً (رمضان 2015، إخراج المثنى صبح)، تتورّط في قول شيء، في حين كانت تقصد شيئاً آخر. يتضمّن العمل نقلات زمنيّة كثيرة، والمضمر فيه أكثر بكثير من الظاهر، ما جعل البعض يجده متعباً، وعرضة لانتقادات. وهناك من وجد فيه اختلافاً من الناحية الفنية عن أسلوب قوشقجي المعتاد في الكتابة، بينما رآه آخرون متساوقاً مع أعماله السابقة. يعلّق: «نعم هو متعب، لكنني لا أقبل كونه متعباً كمادة للانتقاد. أقبل انتقاداً جماليّاً فنيّاً أو انتقاداً فكريّاً، أمّا أن يقال إن كونه متعباً نقطة ضدّه فهذا ما لا أفهمه ولا أتقبّله. السهل والبسيط وحكايا الجدات (مع كل التوقير للجدات) متاحة أيضاً وبكثرة. أنا أختار جمهوري، وآمل أن يختارني الجمهور نفسه الذي اخترته».

لم يراهن قوشقجي يوماً على العرض الأول لأعماله، ولا على المشاهدة الأولى. «لست ممّن يحاولون خطف الأبصار، أزعم أنّ عملي تراكمي، وغالباً أحصد بالفعل نتيجة مرضية». وهل ستبقى الكتابة الدرامية مشروعه التنويري وهدفه الدائم؟ يقول: «بالنسبة للمنبر الذي أستخدمه فهو غير منحصر بالدراما، لدي أيضاً الرواية والمقالة والإنترنت (مواقع التواصل)، سأكون في كلّ منها بقدر ما تسمح الظروف».

في عمله الأخير بدا كل شيء ممنطقاً، الحبّ والاهتمام والأوهام والقبول بالحلول المؤقتة. فما مدى تأثير الجوّ السياسي العام في البلد على المزاج في الكتابة؟ يؤكّد صاحب «ليس سراباً» (2008): «الجو السياسي والأمني والمعنوي في البلد له تأثير على كلّ شيء بلا استثناء، فما بالك بمزاج الكتابة». ويتابع: «هذا الجوّ دفعني إلى عدم القدرة على كتابة أيّ حرف في لحظة من اللحظات، وإلى كتابة ما أضطر للاعتذار عنه لاحقاً في لحظة أخرى، بعد كل ذلك استطاع «في ظروف غامضة» أن يولد بعد مخاض عسير».

ينحاز قوشقجي للجمال وللقيم التي ينتمي إليها، للبلد وأهل البلد، ينحاز لثورة عقليّة وفكريّة شاملة، ينحاز للحريّة. يرفض اعتباره متحيّزاً للمرأة «برغم أنّني لطالما سمعت أنّني متحيّز للمرأة، إلا أنّني لا أنظر إلى نفسي على هذا النحو. كل ما أقوله إما يشبه امرأة أو يمثّل قضيّة تعني امرأة أكثر من سواها. كتبت عن نساء التقيت بهنّ، وكتبت عن نساء لم ألتق بهن، الواقع والمشتهى يسيران جنباً إلى جنب في أعمالي سواء تعلّق الأمر بالمرأة أو أيّ تفصيل آخر، وفيما يتعلّق بالمرأة، غالباً ما يكون الواقع أجمل من أيّ خيال».

لا يرى قوشقجي أنّ مشكلة الدراما تكمن في افتقاد الموضوع المناسب. «لن تُفتقد المواضيع المناسبة مهما مرّ من الزمن، نحن نسمع مسرحيين من العصر الإغريقي يتساءلون: ما الذي لم يُكتب عنه بعد؟ وبرغم ذلك، منذ ذلك الحين، تمّ إنتاج روائع خالدة في أصناف الأدب والفن كافة». إذاً أين تكمن المشكلة، نسأله. «الأزمة إن وجدت هي الأزمة الوطنية الكبرى التي نمر بها، ومن غير الطبيعي ألا تترك ظلالها على كل مناحي الحياة ومنها الدراما، وأعتقد أن سوريا، قياساً بما تمر به، تجترح معجزات، بلد آخر ربما كان انتهى كلّ مظهر حياة أو شغف فيه مع ضراوة المأساة التي نمر بها».

في عمله الجديد «نبتدي منين الحكاية» الذي يصوَّر حاليّاً في دمشق، يكتب عن الحياة والحب وهاجس الموت. لماذا «نبتدي منين الحكاية» الآن؟ يقول: «لا تزال صباحات دمشق ولياليها برغم كلّ ما تمرّ به تحتضن العشاق وتحنو عليهم، وتقدّم لهم المساحات الفسيحة ليعيشوا قصص عشقهم. لم ينته الحب ولن ينتهي، ولن يحتاج أيّة «لماذا» لتبرير الكتابة عنه».

لم يغادر قوشقجي دمشق. «لماذا أغادر؟ لقد قلت على لسان بطلي في مسلسل «في ظروف غامضة»، «ما بستحكم عيش غير هون». هذه الكلمة تمثلني جداً. أرجو ألّا أبدو خطابياً لكنّها الحقيقة: لا ترضيني مدينة في العالم بعد دمشق، ولا بلد في العالم بعد سوريا. هل لن أغادر؟ لا أستطيع أن أخمّن، لكنّ رحيلاً كهذا إن فرضته عليّ الأيام سيكون هو «الرحيل».